يحيط كتاب «الطب وعلماؤه في عصر الحضارة الإسلامية»، لمؤلفه د. محمد رضا محمد عوض، باختراعات وعلماء الطب في الحضارة الإسلامية. ويقول د.علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق في تقديمه للكتاب، إن من عظمة الحضارة الإسلامية، أنها تتعامل مع الكون بعينين بصيرتين: الأولى تدرك بها الوحي المنزل من الله تعالى ومحاولة فهم مراد الله منه.
والثانية تدرك بها الكون بما فيه ومن فيه. وجاءت تلك النظرتان لخدمة الإنسان وتنظيم حركة حياته في تعامله مع الله والإنسان والكون كله. ويضيف: «من مقاصد الشرع الذي دعا إليها وأوجبها على الخلق في هذا الصدد، مراعاة حياة الإنسان المادية والروحية، ومن تلك المادية أوجب الحفاظ على جسد المرء ونفسه بالوقاية والعلاج، ولذا كان الطب ولا يزال محراب الإيمان...».
والكتاب يلقي الضوء على التقدم الكبير الذي وصلت إليه المنظومة الطبية في عصر الحضارة الإسلامية، من اكتشاف أمراض جديدة وطرق عديدة للكشف الإكلينيكي للوصول إلى التشخيص السليم، ونظام تعليم الأطباء وتأهيلهم وقانون ممارسة المهنة، وإنشاء المستشفيات التخصصية وإدارتها وطرق البحث العلمي في مجال الطب الباطني والجراحة وعلم الأدوية والطب الوقائي، والتي كانت الأسس التي بني عليها الطب الحديث.
قسم المؤلف الكتاب إلى قسمين، الأول تناول بنظرة عابرة ومركزة، تاريخ الطب ومجالاته المختلفة في تلك العصور، والقسم الثاني قدم فيه السيرة العلمية والحياتية لعلماء بارزين، منهم:
جابر بن حيان وحنين ابن إسحاق والكندي والطبري وثابت بن قرة والرازي وبن ماسويه والفارابي والزهراوي وابن رضوان وابن رشد وابن أبي أصيبعة. إضافة إلى موسى بن ميمون وابن البيطار وابن النفيس ولسان الدين بن الخطيب وداود الأنطاكي.
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن أطباء الحضارة الإسلامية انكبوا، عبر القرون، على البحث والتنقيب والوصول إلى منظومة متكاملة في مجال ممارسة الطب والأبحاث العلمية.. وكتابة الموسوعات الطبية، مثل: «القانون» لابن سينا و«التصريف» للزهراوي و«الحاوي» للرازي و«الموجز» لابن النفيس و«الأدوية» للبيطار.
وكان لأبحاث هؤلاء الأطباء أثر كبير في تطور الطب، وساعدت على وضع المعايير الطبية الحالية، فمنذ القرن الـ10م أخذ الطب بفضل الأطباء المسلمين، شكلاً جديداً لم يكن معروفاً من قبل، حتى لا عند ابقراط ولا غالينيوس.. ولا عند غيرهما.
ويقول المؤلف: أدخل نظام التجارب الطبية للمرة الأولى في تاريخ الطب بواسطة العالم أبوبكر الرازي عندما طلب الخليفة العباسي بناء مستشفى في بغداد وذلك في القرن العاشر، بعد تجربة تعد الأولى في تاريخ الطب، وذلك بوضع قطع من اللحم في أماكن مختلفة من بغداد وتركها لعدة أيام. واختار مكان إقامة المستشفى في المكان الذي حدث فيه أقل تحلل لقطع اللحم، حيث إنه المكان اللائق صحياً لإقامة المستشفى وأقلها تعرضاً للعدوى.
ويبين الكتاب أنه من الظواهر المتميزة في عصر النهضة الإسلامية، وجود ضوابط لعمل المستشفيات ومزاولة مهنة الطب، بعيداً عن الاختلافات العقائدية أو الجنسية، إذ كانت تعالج المرضى من جميع الأجناس والعقائد سواء كانوا مسلمين أو يهوداً، فقراء أو أغنياء، وكان يعمل بها أيضاً الأطباء المسلمون والمسيحيون واليهود على السواء، ووضع علماء النهضة الإسلامية قواعد الكشف السريري على المريض، واستخدام قياس النبض والحرارة، والكشف الإكلينيكي لتقييم حالة المريض.
ويلفت المؤلف إلى أن أول شهادة لممارسة الطب منحت عام 931 م، وذلك في زمن الخليفة العباسي المقتدر، والذي أمر أن تعطى هذه الرخصة لمزاولة المهنة عندما توفي مريض بخطأ من أحد الأطباء، فطلب الخليفة من كبير الأطباء ثابت بن قرة، تشكيل لجنة برئاسته لتقييم العاملين في ممارسة الطب ومنح الترخيص لـ 860 طبيباً ممارساً في بغداد فقط، خلال العام الأول من هذا القرار، وقررت وظيفة باسم المحتسب للإشراف ومعاينة أماكن إعطاء الدواء، والتأكد من نوع ووزن وفاعلية الدواء في الصيدليات المختلفة مرة كل عدة أشهر.
وفي أيام الخليفة العباسي المأمون أنشئ «بيت الحكمة» الذي أدى دوراً كبيراً في نشر العلوم الطبية، وبعدها أنشئت المستشفيات التي كانت مركزاً للتعليم الطبي، وكانت تسمى باسم الطبيب الذي يعمل بها، مثل: مدرسة ابن ماسويه، مدرسة حنين بن إسحاق في بيت الحكمة، المدرسة الدخوارية في دمشق للشيخ مهذب الدين الدخوار.
ويحكي المؤلف عن انتقال هذه الحضارة إلى أوروبا: كان عن طريق مراكز الاتصال بين العالم الإسلامي وأوروبا الغربية، التي تتمثل في إسبانيا وجزيرة صقلية. كما نهل الغربيون خلال حملاتهم الصليبية على الشام ومصر وشمال إفريقيا، كثيراً وكثيراً من منجزات الحضارة الإسلامية في كافة المجالات، وعادوا بها لبلادهم.
وكانت الترجمة المنظمة لآلاف المؤلفات العربية إلى اللاتينية بواسطة المترجمين الأوروبيين، وأشهرهم قسطنطين الأفريقي وجيرار دي كريمونه، عاملاً مهماً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى إيطاليا وفرنسا ثم إلى باقي دول أوروبا، كما كانت قرطبة مركزاً مهماً لطالبي العلم من جميع أنحاء أوروبا لتلقي العلم والمعرفة.
ويبين الكتاب مدى تأثير العصر الإسلامي على الطب الحديث، مستشهداً بما يقوله دكتور خوسيه لويس بارسلو من إسبانيا: «إن الأطباء العرب لم يكتفوا بترجمة المؤلفات الطبية اليونانية والهندية والفارسية القديمة، ولكنهم أعطوا العالم أطباء بمعنى الكلمة، وأعطوا الطب شكلاً لم يكن معروفاً من قبل، وكانت مدارسهم مثلاً اقتدى الغرب به فأسس جامعاته على نفس النمط، وعلم فيها المناهج التعليمية بالمدارس الإسلامية، نفسها. وخير مثال: مدارس الطب في ساليرن بإيطاليا ومونبلييه وباريس بفرنسا».
أرسل تعليقك