رواية الباغ تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ
آخر تحديث 16:46:38 بتوقيت أبوظبي
 صوت الإمارات -

رواية "الباغ" تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ

 صوت الإمارات -

 صوت الإمارات - رواية "الباغ" تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ

رواية الباغ
القاهرة - صوت الإمارات

من غرائب اللغة العربية أنّ الفعل «روى» يفيد معنيين؛ الأول هو السقي والثاني هو السرد، وهذا ما يحدث مع رواية «الباغ» للروائية العمانية بشرى خلفان، فقد سَقتْ القراء من زلال الحكايات والتاريخ والأزياء والجغرافيا وكل ما يخص هذا البلد الذي يقع جنوب الجزيرة العربية والذي لا يزال للغالبية مجهولاً نوعاً ما. وما من قارئ ينتهي من هذه الرواية إلا ويذهب لتفحص خريطة عمان وجباله وموانئه ومدنه التي ترد في تفاصيل الرواية.

تقع «الباغ» في 334 صفحة، دار «مسعى»، بغلاف لافت بطلاسم حروفية ورقمية ورسوم بحرية اشتهر بها أهل عمان، وما أنّ نفتش عن لوحة الغلاف حتى نكتشف أنها فعلاً صفحة من مخطوط قديم هو «معدن الأسرار في علم البحار» للبحار العماني ناصر بن علي الخضوري. الرواية هي الأولى للكاتبة بشرى الخلفان بعد عدة مجموعات قصصية.

«الباغ» حكاية تمسك بتلابيب القارئ وتقبض على مشاعره تماماً من خلال قصة حب عجيبة تبدأ من أول صفحاتها ولا تنتهي مع نهايتها. لكن هذه القصة لا تشبه قصص الحب التي نعرف، بل هي قصة محبة ومصير بين أخ وأخته. تبدأ الرواية بهذه الجملة: «نخوض، يا نوصل رباعة يا يشيلنا الوادي رباعة»، وخاضت الكاتبة برفقة قرائها وعبر مسالك وشخوص وتتابع أحداث الرواية، رحلة موفقة وممتعة لتنتهي في آخر صفحة بالجملة ذاتها «يا نوصل رباعة يا يشيلنا الوادي رباعة».

ورغم أن عالم السرد لا يحوي الحقائق بل التأويلات، لكننا أبحرنا في حقائق تاريخية عن عمان وتقلباتها السياسية بين السلطان في مسقط والإمام في نزوى، منذ أربعينات القرن الماضي وحتى تسلم السلطان قابوس الحكم. وقد اختارت الكاتبة لبطلي الرواية (ريّا وراشد) أن يَبْدآن رحلتهما عبر الغربة والنفي الإرادي كرد فعل على الظلم الذي تعرضا له من العم والعشيرة عقب وفاة والدهما: «بلاد ما ترد الظلم عن أولادها ما نبات فيها ليلة» ص11. يختار الأخوان ترك قريتهما، لكن المنفى يتضمن فكرة الإلغاء، إلغاء علاقتهما بالأرض والسماء والمجتمع، ثمة خط عمودي يصل بين السماء حيث المعبود وبين الأسلاف في هدأة الموت الطويلة، وثمة خط أفقي يضمُّ (القرية / السراير) حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة. وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الأخوان. هول رحيلهما هو في اقتلاعهما من نقطة التقاطع هذه وازدراعهما في بقعة أخرى لن تكون نقطة التقاطع فيها هي ذاتها، فلا السماء أولى ولا الأسلاف أسلاف ولا الهواء ولا رائحة الزرع ذاتها. لكنهما وصلا مسقط معاً، وكأنما القارئ يحاذيهما في المشي ويتماهى معهما، ويتعرف من خلالهما على جغرافية مسقط ومناطقها وبحرها وقلعتها وأبراجها وبوابتها، وذلك عبر ما يرويه ويصفه الراوي، وهو صوت الشخص الثالث الذي اختارته الكاتبة كآلية سردية. وقدّ تعمّدَتْ الروائية إشراك القارئ لاستكشاف الأمكنة والأحدث مع الأخوين، بهذا الصوت وهذه اللغة الوصفية التفصيلية المتتابعة، فصرنا نعرف جغرافيا مسقط في أربعينات القرن الماضي (بيت فرنس / بيت القنصل الفرنسي، قلعة الميراني، الفرضة، قصر السلطان، بيت الباليوز / مقر القنصل الإنجليزي، مقر الجمارك، كوت الجلالي / السجن، حارة الميابين، بيت الوادي). لنكون شهوداً بما سيحدث من تغيّرْ جغرافي مع تتابع السرد. كان راشد مزارعاً في قريته (السراير)، يهتم بالنخيل والزرع والجني والثمر، ويحوّل مجرى المياه إلى قنوات الفلج، هو ابن الحياة والأرض، لا يعرف القراءة والكتابة، كأنما تقصّد أبوه ذلك لخشيته من اجتماع العلم بالقوة البدنية عند ولده، وعلّم أخته ريّا القراءة وتلاوة القرآن ولم يعلّمه، لكن راشد وقع ضحية جهله حين احتال عليه عمه وسجنه بتهمة ظالمة، وسيهزم راشد جهله بعد حين بتعلم القراءة والكتابة سريعاً من صديقه علي. وما أنّ يصل مسقط حتى يفقد حريته، يفقد نخيله وزرعه ويتحول إلى عتالٍ يحمل البضائع من وإلى السفن ثم شرطي يحمل سلاحاً ثم عسكري في حامية مسقط. البحر مثل مسقط غسل جراحه وهيجها في الوقت ذاته، بينما قرّب علم ريّا وحسن تلاوتها للقرآن من مضيفتها العودة التي تبنّتها وعلّمتها أسرار التداوي بالأعشاب وكيفية تغسيل الميتة وتكفينها، التي ورثتها عن أمها. كان راشد طفلاً غضوباً صموتاً وكانت أخته ريّا أماً رؤومة وعارفة. تتزوج ريّا لاحقاً من علي صديق راشد، كأن زواجها من صديق أخيها هو ارتباط مضاعف به.

جدوى الرواية

إنّ كتابة رواية عن التاريخ القريب لبلد ما، لهو عمل شاق فعلاً، فالكاتبة أرادتْ تضمين كل ما تعرفه عن تاريخ بلدها من خلال حكاية أخ وأخته. مبرر كتابة الرواية هو الكشف والاكتشاف، والرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود لا يزال مجهولاً هي راوية غير مجدية، وقد تكون المعرفة هي مبرر الرواية الوحيد. وقد كشفت لنا الروائية بمهارة أدبية نادرة، خفايا علاقة إنسانية قلما تناولتها الرواية من قبل وهي علاقة الأخت بأخيها وارتباطهما المصيري معاً، بدءاً من اللحظة التي يربطان نفسيهما معاً وهما فوق ظهر الناقة لعبور الوادي الذي تغمره السيول؛ «ريا ليست بعيدة عنه، يسمع صوت تنفسها فيطمئن».

كشفت هذه الرواية أيضاً الأحداث المهمة خلال حكم السلطان سعيد بن تيمور، هجرة العمانيين للدراسة والعمل وتبنّيهم العقائد السياسية المختلفة، نشوء مسقط الحديثة ثم تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم. هناك تداخل بين الحقائق والمنازعات التاريخية وبين الذاكرة الشخصية للشخوص، بين انتقالات سردية رائعة من الذكريات التي يختزنها راشد في روحه، والمشاهد التي يراها وهو في السيارة العسكرية المكشوفة، في طريقه إلى صحار لبسط سيطرة السلطان المدعوم بالقوات البريطانية على واحة البريمي العمانية المحاذية للحدود مع أبوظبي، لكن بريطانيا دوّلت النزاع الذي لم يُحل إلا قريبا لصالح عمان.

والرواية تستقرئ الأساطير والعادات الشعبية والتداوي بالأعشاب، وتفاصيل الحياة اليومية للناس البسطاء من مأكل (التمر، القهوة، مرق السمك مع التوابل)، الملبس (كمة / طاقية، المصر / العمامة)، (السبلة / مجلس الشيخ، البرزة / مجلس الوالي، الصباح / الدكة التي يجلس عليها حراس البوابات، الباغ / الحديقة). طقوس العرس وأهازيجه، وخليط البشر المتعايشين من هنود البانيان والبلوش والعرب والإنجليز، وكل ذلك بلغة منسابة شاعرية بلا تكلف وصورية بلا إطالة في الوصف. كما نجحت الكاتبة جداً في تطريز السرد والحوارات بالدارجة العمانية، وهو ما منح الرواية نكهتها الخالصة: (مدي يدش وفتحي قلبش) ص64. تقوم البنية السردية في هذه الرواية على حكايا النساء، حكاية ريّا الرائية التي حُجِبت بغلالات من الكلام والأمنيات، والتي رفض أبوها تزويجها من ابن عمها الظالم ثم زواجها وأمومتها، وحكاية أمها من قبلها التي تمت التضحية بها في زواج صلح بين القبائل، حكاية العودة وحكمتها وصندوقها ذو الأسرار، حكاية البيبي البحرينية التي تزوجت تاجراً من عمان. المرأة في هذه الرواية هي من يصنع الحدث ويديره كيفما تشاء باستثناء الحرب التي تُنْبتْ القسوة في القلوب. هي التي تشفي وتُطعم وتُعلّم: «لو علمتهن تكثر كلمة الله ويوم تكثر كلمة الله قلوب الناس ترق» ص116. وهكذا صارت ريّا معلمة في بيت (الباغ / البستان)، الكاتبة هنا أحسنت توأمة العلم والحب مع البستان، وهل من بستان غير الحب والعلم! لكن الاستزادة من العلم تستدعي الخروج من (البستان / الجنة)، وهذا ما حصل مع زاهر ابن ريّا حيث يهاجر إلى الكويت طلباً للعلم تاركاً حبيبته مزنة ابنة البستان وعلى شفتيها شبح قبلة يتيمة. المزيد من العلم سوف يشقيه ويجعله مسكوناً بالأسئلة التي ستقوده إلى مواجهة مع خاله راشد العسكري المنضبط، وإلى مصيرٍ مجهولٍ حتى نهاية الرواية.

emiratesvoice
emiratesvoice

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رواية الباغ تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ رواية الباغ تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ



GMT 09:12 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

دار نشر "كتابى" تصدر المجموعة القصصية "هلاوس بصرية"

GMT 17:20 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

"فيلوفوبيا" مجموعة قصصية لـ "محمد عدلى" في معرض الكتاب 2018

GMT 08:27 2018 الأحد ,07 كانون الثاني / يناير

دار الجندى تصدر المجموعة القصصية "دمعة على وجه القمر"

GMT 11:40 2018 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

كواليس "صاحبة الجلالة" في رواية "شرف المهنة"

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates