يشمل مصطلح الاستراتيجية النواحي العسكرية وأيضا المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، بصفة عامة، وتفرعت المعاني فأصبح هناك تمييز بين الاستراتيجية العليا أو العظمى والوطنية والعسكرية والسياسية، ولذلك كان على الزعيم أو القائد أن يملك النظرة الاستراتيجية الشاملة التي تمكنه من اختيار الزمان والمكان المناسبين، حتى يأتي قراره بالنتيجة المطلوبة سواء في زمن السلم أو الأزمات، وميزت النظرة الاستراتيجية الشاملة مواقف الشيخ زايد كافة، منذ أن تولى المسؤولية حاكما لأبوظبي في شهر أغسطس/ آب عام 1966، ورئيسا لدولة الإمارات العربية المتحدة في شهر ديسمبر/ كانون الأوَّل عام 1971.
ومن خلال متابعة إنجازاته المبكرة نجد أنه كان يتسم بميزتين لم يتمتع بهما كثيرون من القادة، وذلك من ناحية خياله الواعد وحبه للعمل العام من أجل شعبه، ولولا خياله الواعد لما تمكن من حل المشكلات الجوهرية لسكان العين والمنطقة الشرقية، والقبائل من حولها دون إمكانات مادية تذكر، ثم إن حبه للعمل العام جعل من أبوظبي أولا واحة من الواحات الجميلة والحديثة في العالم، وبلا شك فإن القدرة على التخيل والتصور تمنح المفكر الاستراتيجي رؤية ثاقبة تربط بين الإمكانات المتوفرة وبين تنفيذ المشروعات والسياسات المطلوبة.
وهنا تعيدنا الذكرى إلى أن الشيخ زايد، كانت أحلامه في مدينة العين والمنطقة الشرقية كبيرة، وكان يعتمد على إيمانه الراسخ بتحقيقها في مجال الزراعة والتجارة والتطوير العمراني، ولم يكن يعتمد على احتمال اكتشاف البترول في أبوظبي، ويقول: "ما كان أحد يحلم بذلك ولم أعرف عن البترول حتى رأيت الشركات التي تطالب بامتيازات البحث والتنقيب عن البترول، وعرفت أن البترول موجود قبل أن أكون في العين، وإذا أصبح لدينا بترول فالعائد منه يمكن أن ننفقه على المشروعات، فالبترول موجود لكنه لم يكتشف بعد وعندما تم اكتشافه لم يكن قد بدأ تصديره بعد، وحتى قبل هذا اليوم كنت أخطط لإنشاء طرق وغيرها من الخدمات الضرورية". وبهذا المثال نرى أن الشيخ زايد بفكره الاستراتيجي ينظر دائماً إلى المستقبل بحيث لا تصدمه مفاجآت لم تكن في الحسبان، وعنصر التوقيت لا يقل في أهميته عن عنصر الإعداد، وهي حقيقة وضعها دائما في اعتباره، وفي هذا يقول لأحد الكتاب العرب: "الحقيقة أن الإنسان في حياته تتولد في رأيه وفكره أشياء كثيرة يرغب في تنفيذها على أرض الواقع ولكنه لا يستطيع لعدم توافر القدرة والإمكانيات المادية لديه، ولكن إذا يسر الله، سبحانه وتعالى، الأمور على عباده فسيصبح تنفيذ هذه الأشياء واقعاً، وإذا ما توافرت الرغبة والإصرار على عمل شيء سيكون، أما إذا لم تتوفر الرغبة والإصرار فلن يستطيع أن ينفذ أي عمل أو مشروع حتى ولو توفرت له القدرة والإمكانية المادية لذلك سواء كان هذا العمل في الزراعة أو السياسة أو أي مجال آخر".
ومن هنا كان الشيخ زايد يرى أن الإرادة والإصرار والرؤية الصحيحة من العوامل التي تحيل النظرة الاستراتيجية إلى واقع، حتى في غياب الإمكانات من خلال إعادة صياغة الواقع الراهن، لأنه لا يوجد وطن بلا إمكانات وطاقات مهما بدا حظه ضئيلاً في الثروات الطبيعية، إذ يرى أن الإنسان هو الثروة الحقيقية التي إذا ما استعملت على الوجه الأمثل فإنها كفيلة بتفجير كل الطاقات وابتكار كل الإمكانات.
ومما قاله في هذا السياق لعدد من الصحفيين العرب والأجانب في شهر أبريل 1973 "إننا يجب أن نعيد النظر في إمكاناتنا وقدراتنا ونعمل من أجل وطننا فليس هناك أثمن من العمل المخلص، والإنسان لا يعرف ما يواجه بعد ساعة أو غداً، لقد واجهتنا في الماضي صعاب عديدة لدرجة أن الكثيرين ظنوا أننا سنحتاج إلى القروض لبناء بلدنا، ولكن الحمد لله ها نحن نبني بلدنا دون أن نلجأ إلى أحد، وقد تصرفنا وعملنا بقدر ما في أيدينا وطاقتنا، وها نحن نكتسب العلم والخبرة لبناء حاضرنا ومستقبلنا".
للعلم موقع في النظرة الاستراتيجية
ترى نظرة الشيخ زايد الاستراتيجية أن العلم والتعليم هما الهدف الأسمى، أما الوظائف والمناصب حتى العليا منها لا قيمة عملية لها إذا لم تترجم نفسها إلى إنجازات مادية ملموسة، فالعلم ليس مجرد معلومات مخزونة والتكنولوجيا ليست شعارات توحي بتحديث المجتمع ، بل هما أسلوب عمل لتحقيق أهداف الوطن، ولذلك يجب وضع الاستراتيجية التي تحدد مجالات البحث العلمي والإنتاج الوطني على أسس اقتصادية وعلمية، وهذا يحتم أيضاً وضع حد لعملية التوجه نحو التعليم طلباً للوظائف فقط وبين الخبرة والتجربة العملية التي تقوم بتنفيذ سياسة البناء الوطني على أرض الواقع بهدف تطوير الخبرة المكتسبة إلى قدرة ذاتية نابعة من صميم التكوين الوطني لشعب دولة الإمارات، وفي زيارة للشيخ زايد إلى جزيرة مبرز، وهي مركز نفطي أشار لوزيرين رافقاه في الزيارة قائلا: "يجب أن لا يفهم الخريج بعد أن يتسلم منصبه أنه حقق هدفه بعد أن حصل على الشهادات وأنه وصل إلى المنصب وانتهى الأمر. إذا قال المواطن هذه العبارة فهو الذي انتهى ولا أمل فيه لخدمة بلده وأمته.
إن من واجبات هذا المواطن أن يعمل ويتعب ليل نهار لرفع مستواه ما دام حياً، أما إذا عمل لفترة ثم توقف بحجة أنه حقق أمله فقد نسي أمته ونسي شعبه وأهله. يجب إعلام شبابنا بذلك، إذ ليس الحصول على الشهادة والحصول على المناصب هو كل شيء، بل يجب عليه أن يواصل عمله من أجل نفسه ومن أجل أمته ويؤدي دوره لبناء مستقبل بلده".
تجنب المشاكل مع الدول الأخرى
توجهاته الاستراتيجية
كان من أهم ثوابت النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد العمل الدائم على تجنب المشاكل التي قد تتسبب بعرقلة العمل الوطني في بناء وتطوير قدرات دولة الإمارات، ومن هنا نجد أن نظرته في كثير من الأحيان تبدو كأنها تعتمد على تجنب الخصومات وعبور الأزمات وتجاوز المشكلات التي لا يعود الدخول فيها بأي نتائج إيجابية، ويؤكد هذه الصورة للوزراء بعد أدائهم اليمين الدستورية في شهر يوليو عام 1983 بالقول: "لا شك أنكم في صورة الوضع الداخلي والتطورات الخارجية، والجميع يعلم أن دولة الإمارات منذ أن قامت ليس لها خصومة مع أحد".
ولذلك كان فكره يتجه إلى العمل الحثيث من أجل إزالة كل أجواء العداء والخصومة التي قد تحدث على المستوى العربي أو الدولي، والتي كان يرى فيها خسارة لكل الأطراف إلى جانب أنه لو سادت قيم السلام والمحبة والإنسانية لانطلقت أجواء العالم إلى آفاق راقية، ومن هنا كانت نظرته ترى أن السلام عنصر حيوي في تحقيق رؤيته الاستراتيجية بأهدافها المرسومة من أجل خير ومصلحة الإمارات أولًا والإنسان في كل مكان. ويجسد، رحمه الله، هذا المفهوم في رسالته إلى مؤتمر عدم الانحياز الذي عقد في نيو دلهي في يونيو عام 1989 بمناسبة الذكرى المئوية لمولد الزعيم الهندي جواهر لال نهرو قائلا "إن إقامة الأمن والسلام الدوليين تتطلب استكمال عملية تصفية الاستعمار والقضاء على السيطرة والاحتلال الأجنبي بكافة أشكاله والتعجيل بعملية تمكين الشعوب التي ما زالت ترزح تحت نير الاستعمار والسيطرة الأجنبية من الحصول على حقها في تقرير المضير والقضاء على سياسة الفصل والتمييز العنصري وتعزيز مبادئ الاستقلال الوطني للدولة وسيادتها وسلامة أراضيها".
النظرة الاستراتيجية تركز على المستقبل والأجيال
من الفترة المبكرة لاجتماعات الشيخ زايد، بإخوانه الحكام من أجل إقامة الاتحاد اعتاد أن يواجه بكل تفكير وحكمة الصعوبات الراهنة، أو تلك التي يمكن أن تظهر بسبب كثرة الموضوعات التي كان يناقشها المجلس الأعلى للاتحاد أو المجلس الاتحادي المؤقت، وكان يقوم بدور الوالد نحو أبنائه متمسكاً بالصبر والتوعية المستمرة والأسوة الحسنة، وذلك لأن المشكلة في نظره لا ترتبط بالمواطن فحسب، بل تمتد لتشمل المصلحة الوطنية في نهاية الأمر، مما ينتج عنه قضايا شكلية أو حساسيات لا لزوم لها في وقت يحتاج فيه الوطن إلى كل دقيقة وإلى كل جهد لمواكبة إيقاع الزمن السريع. وعلى سبيل المثال لهذه الشكليات ذكرت إحدى مواد الدستور المؤقت قبل قيام الاتحاد على أن تقام العاصمة الكرامة بين دبي وأبوظبي. وبسعة صدر الوالد وحرصه وبعد نظره كان له هذا التوجه الذي حملته صحيفة الرأي العام الكويتية في شهر أبريل عام 1979: "هل المطلوب منا أن نهدر أموالنا في قضية شكلية؟ وهل من الضروري أن نقيم مدينة جديدة لتكون عاصمة في الوقت الذي يتوفر لدينا عدد من المدن كل منها بما تملكه من مقومات مدينة حضارية ووسائل عصرية تصلح لتكون هذه العاصمة المطلوبة. لم لا تكون أبوظبي أو دبي أو الشارقة عاصمة للدولة؟ لم لا نوفر الأموال للأجيال القادمة التي لن تغفر لنا عملية بناء مدينة جديدة دون مبرر مقنع وضرورة عملية واضحة؟ أنا أفهم أن تبني الدولة مدينة أو بلدة في قلب الصحراء لتوطين البدو مثلاً، ونقل خدمات الحضارة إليهم، أو تبني الدولة بلدة أو قرية وسط منطقة زراعية لضرورات التسويق والإرشاد الزراعي، أما أن نبني عاصمة جديدة بوجود عواصم في الدولة، فلا أظن الأمر مستقيم مع منطق الأشياء، وأنا إذا قلت عواصم فإنما أعنيها فعلاً لا مجازاً".
هذه النظرة الاستراتيجية كانت الصفة المميزة لفكر الشيخ زايد، ذلك أن عينه كانت دائماً إلى المستقبل وأجياله القادمة التي عليها أن تواصل مسيرة تدعيم وترسيخ الصرح الاتحادي امتداداً لمعطيات الحاضر.
النظرة الاستراتيجية للشيخ زايد لم تعرف اليأس
لم تكن السلطة في نظر الشيخ زايد مصلحة شخصية أو مكسبا دعائيا كما اعتاده رؤساء وقادة في العالم، بل يمكن القول إنه كان زاهداً في المسميات والمناصب لأنه نذر نفسه وجهده وعطاءه لهدف واحد هو الإمارات وشعبها، وما مقعد الرئاسة بالنسبة إليه إلا موقع لتحقيق المصلحة العامة للوطن والمواطن تحت أي ظرف حتى في ذلك الوقت الذي شعر فيه أن هناك عثرات في طريقه لتحقيق الاستراتيجية الوطنية التي وضعها نصب عينيه لرفعة الإمارات ومتابعة تقدمها.
من هنا طفت على السطح فكرته بالتنحي عن سدة القيادة مع بقائه في موقع الدعم والعطاء للقيادة القادمة لأحد إخوانه من أعضاء المجلس الأعلى. وقد جاء هذا الإعلان الذي كان صادماً لأماني أبناء شعب الإمارات وتطلعاتهم وباعثاً على الإحباط في نفوس إخوانه أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات في تصريحين صحفيين عام 1976 كان أولهما في البحرين بينما جاء التطرق إلى هذه الأمر في المرة الثانية في مؤتمر صحفي في الصومال يوم 7 أغسطس في زيارة رسمية، وهو في طريقه لحضور قمة عدم الانحياز في كولومبو أوضح فيه الأسباب التي دعته إلى التفكير باتخاذ مثل هذه الخطوة مع إمكان رجوعه عنها إذا توفرت الظروف.
هذا هو الواقع الوطني الذي حققه الشيخ زايد، كان من حقه أن يحافظ عليه ويحميه من كل ما يمكن أن يمس به من قريب أو من بعيد حتى لو أدى به هذا الإصرار إلى التنحي الفعلي عن السلطة بهدف أن تدرك كل الأطراف المعنية أنه في سلطته من أجل ترسيخ هذا الواقع الحي الذي تعيشه الإمارات بل وتطويره نحو الأفضل .ونظراً لأنه، رحمه الله، كانت له بعض الملاحظات والاعتراض على بعض الجهات مما رأى فيها عقبات على طريق دفع المسيرة بشكل أقوى فقد كرر موقفه مع بقائه في موقع دعم ومؤازرة القيادة المقبلة.
أرسل تعليقك