في الحوار مع الفنان التشكيلي الإماراتي عبدالرحيم سالم، كنت أتساءل كيف هو شكل اللغة الصحافية المناسبة والقادرة في الوقت الراهن، على أن تنقل إحساس الفنان بعمقه، دونما طرح مباشر فضفاض، بل تواصل بديع يحمل المعنى بكل خفة، ويُخبر الناس بأشخاص مبدعين يعيشون لحظات إبداعية، بعيداً عن الواقع الافتراضي، وبعيداً حتى عن الواقعية، إذا صح التعبير.
وأنهم أقرب إلى تجسيد اللحظة الحيّه، التي يمكن ملاحظتها بنظرة خاطفة في مرسم الفنان عبدالرحيم سالم، موقع الحوار، كان يتحدث عن النسمة الباردة الخاطفة بين المباني، واصفاً أثر الجداريات في تثقيف المجتمع بصرياً، بينما كُنت منشغلة بتأمل لوحاته الجديدة، تلك التي يستعد لعرضها في المجمع الثقافي بالعاصمة أبوظبي، ممثلةً جزءاً من استعادة لمسيرته الفنية بين التسعينيات والألفية حتى الوقت الراهن.
استشففت في أحد أعماله رجلاً وامرأة، يتراءى للناظر أنهما سقطا من مكان ما، لينضم الفنان عبدالرحيم إلى لحظة التأمل قائلاً: «إنهما أيضاً في محاولة للنهوض بعد السقوط»، ومن هذا الالتقاء بدأت الأسئلة: متى تكون الرمزية واضحة في اللوحات الفنية، رغم أن الهدف منها عادةً مبهم، وهل الشخصية التراثية الشهيرة التي عُرف بها في أعماله «مهيرة»، تعكس تلك الذاكرة العصية على التلاشي، في أن المرأة هي الطاقة الخلاقة التي لا يمكن قمعها، القادمة من مصدر الأشياء، مصدر كل شيء في الحياة؟!
مهيرة أخرى
يقف الفنان عبدالرحيم سالم، بجانب لوحاته الجديدة التي يصل البعض منها إلى 8 أمتار أو ربما أكثر بقليل، يريد أن نرى مهيرة بوضوح صارخ، هذه المرة، يعترف بأن بداياته مع «مهيرة» كانت عاطفية، يسترسل بعد أن وضع يديه على إحدى ضربات الفرشاة في اللوحة: «كنت مأخوذاً بعاطفة جياشة نحو (مهيرة) في أعمالي الأولى، كمن يريد أن يقول كل شيء، أن يخرج من عمقه كل التصورات عنها، دفعة واحدة، أقصد تلك المرأة الحاضرة في الذاكرة الشعبية، وتعرضت لاجترار من حقها الطبيعي في أن تقول لا، لرغبات الرجل، هي تعبر عن لحظة تاريخية، تمثل جزءاً من أزمنة متوالية، وبحكم العادة حولت المرأة إلى إنسان لا يحق له مثلاً أن يتأخر عن البيت في وقت يحدده الرجل، (يضحك عبدالرحيم سالم): يجب أن نعي مسألة أن المرأة لها نفس حقوق الرجل في تقرير ما تريده».
توقف عبد الرحيم عن الكلام قليلاً، جلسنا متقابلين وسط طاولة متموضعة وسط المرسم، بينما يشرب الشاي تابع: «لكني أرى (مهيرة) الآن بموضوعية. مع الوقت، تصبح الأمور هادئة أكثر، ومع الوعي باللوحة، تدرك مآلات أخرى لكيفية طرح القضايا الإنسانية عبر أعمالك. وهذا ما سيحدث في مشاركتي الجديدة في معرض سينظمه المجمع الثقافي بأبوظبي، سأطرح (مهيرة) برؤى مختلفة، وهذه المرة رجعت إلى ما يمكن تسميته بالتشخيص، بعد أن حولت (مهيرة) في الكثير من المراحل إلى طاقة شبه تجريدية عبر رسم الأشكال».
تصفية الذاكرة
بعد كل رشفة من كوب الشاي، أتذكر ما قاله الفنان عبدالرحيم سالم: «بعد مرحلة عمرية معينة، مع عوالم الفن، فإني أرجع مجدداً، بعملية تصفية الذاكرة، في محاولة لقياس مضمون ما أنتجته، خاصة المحتوى الفكري». ما الذي يعنيه بتصفية الذاكرة، هل هناك مقدرة خلاقة على فرز ما اكتنزته الذاكرة من تجارب حولتها إلى شعور، يجاورنا حتى أنفاسنا الأخيرة؛ ولذلك كان من المهم طرح سؤال التغير في النسق البشري وتأثيره على الإنتاج الإبداعي، أجاب عبدالرحيم: نحن دائماً لدينا تصور لتغير ما، وإلا كيف يمكننا تفسير حمل علب معدنية وتخيلنا بأننا نتحدث مع أناس آخرين، دونما أن يكون هناك موصل مادي، أقصد مفهوم اللاسلكي، من أين جاء به مخيالنا الطفولي؟ إذاً فإن التغير في المجتمعات دائم ومستمر، وهو يضيف للإنسانية، ولكن له جوانبه الأخرى، وهو إمكانية أن يفقد الإنسان علاقته مع نفسه، وعلاقته مع الآخرين، بأن تصبح هلامية.
يتنفس قليلاً عبدالرحيم، ويتريث قبل أن يستمر بقوله: «الانسلاخ».. أعلم أن وقع هذه الكلمة ثقيل قليلاً ولكنه حاصل بشكل ما، وهو الانسلاخ من شكل إلى آخر، عبر مراحل زمنية، قد نصل من خلالها إلى وقت نفقد فيه كل القيم، وتأتي مرحلة نحولها إلى مجرد صور، دون ممارسة وتجربة لها؛ لأن البعض يكرس فكرة أنها شيء من الماضي أو حتى يسميه تخلفاً، إنني أعلم جيداً أن الإنسانية لن تبقى على صورة واحدة، ولكن قيمتك كإنسان فيما تحمله من قيم، تلك التي تهدينا شكل ارتباطنا مع أنفسنا والآخرين. واللافت أيضاً أن هذا الأمر ألقى بظلاله على الفنون.
عندما أمسك الفنان عبدالرحيم سالم الفرشاة، ليوجهها نحو اللوحة، بينما يلتقط المصور، صوراً فوتوغرافية للصحيفة، فكرت بأن أعيد السؤال المكرر من الصحافيين والمتابعين له في المجال الفني، أردت أن أستمع بنفسي لماذا ترك النحت وألقى بكل شيء على ظهر اللوحة؟ كان متفهماً جداً لإلحاحي حول أهمية النحت، وذلك لأن الفرشاة عادة ما تصنع مسافة بين الفنان واللوحة بعكس النحت، فالأخير يهديه انصهاراً تاماً في المادة، ليوضح الأمر: إنني أنظر للموضوع بأنه أساس للعمل الفني، والحاصل بأنني في اللوحة قادر جداً بصورة أشمل على التنفيس من خلال اللون والتكوين، بالنسبة للنحت فإن الفكرة موجودة وكذلك التكوين، ولكنها على مستوى الرؤية لا تعطينا أبعد مما هو في الكتلة، اللوحة نفَسها طويل، ولأنني أعيش مراحل قائمة على التجريب، كونه متنفساً لي للاستمرار، فإن اللوحة تهديني هذا الفضاء بأريحية أكبر، أستطيع من خلالها النزول، أقصد ذلك العمق الساحر نحو ذاتي.
ومع وصول الحوار عند محطة مفصلية أخيرة شرح فيها الفنان عبدالرحيم سالم تأثير الموسيقى في أعماله، قائلاً: «كلما سمعت الموسيقى، تفاعلت معها، يزيد نشاطي في اللوحة، هي تمثل جمالية خاصة للفنانين، وأراني في أحيان كثيرة الإيقاع اللوني المستمر إلى اللانهاية في تكوين اللوحة».
وقــــــــــــــد يهمك أيــــــــــــــــضًأ :
"غوغل" يُسهم ببيع "موناليزا أفريقيا" بـ1.4 ملايين دولار
عبدالرحيم سالم يستعرض تجربته التشكيلية في فن "الكولاج"
أرسل تعليقك