أربيل ـ مصر اليوم
يمثل الماء المحدد الرئيس للعلاقات الدولية، وبالأخص في جنوب قريتنا الكونية، وأيضا في دول مثل تركيا، وإيران، والعراق، وكردستان، وبلاد الشام، ومصر وشمال أفريقيا، فهل تحول مسار «طريق الحرير» إلى «طريق الموت» في هذه البلدان، من خلال سياسات داخلية لدول المنبع
ومحاولاتها تغيير مجرى الأنهار الدولية صوب داخلها الوطني، ومن ثم مصادرة هذه المياه العابرة للدول في عملية هي أشبه ما تكون بعملية اختطاف الرهائن واحتجازهم؟
* هل يجف نهر دجلة؟
إن التحذير الذي أعلنت عنه «منظمة المياه الأوروبية» في أواخر القرن العشرين من إمكانية جفاف نهر دجلة بالكامل، بسبب مشاريع تركيا، وكذلك إيران التي لها دوافع سياسية واقتصادية، وأكدته دراسة أجراها علماء من وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) بالتعاون مع جامعة كاليفورنيا والمركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي، يبرر المخاوف التي أعلنت عنها وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) من أن ثمة مناطق مرشحة لحدوث صدام عسكري مسلح بسبب شح المياه وهي:
- المجموعة الأولى: وتضم مصر والسودان وإثيوبيا وكينيا وزائير وبوروندي وتنزانيا ورواندا، وتشترك جميعها في حوض نهر النيل.
- المجموعة الثانية: وتشمل تركيا وسوريا والعراق حول نهري دجلة والفرات.
- المجموعة الثالثة: وتضم فلسطين والأردن وسوريا ولبنان من جهة؛ وإسرائيل من جهة أخرى، وهي الدول التي تشترك في أنهار الأردن واليرموك والليطاني والحاصباني والوزان.
إن شعوب المنطقة ودولها إذ تعيش مخاوف حقيقية، وكوارث وسيناريوهات مفتوحة في كل الاتجاهات على خلفية حرب المياه التي بدأت فصولها، فإن الإيقاع المتعثر للربيع العربي الذي جعل من الحدود الوطنية عالما افتراضيا مقارنة بـ«الكتلة الهوياتية» والتي ظهرت بشكل واضح بين العراق وسوريا من جهة، والعراق مع «إيران وتركيا» من جهة ثانية، ككتل قومية مهدت الظروف لإعلان حروب المياه الداخلية، فالكتلة الهوياتية بوصفها تجمعا سكانيا يوحده خطاب سياسي قائم على أساس «القومية أو الدين أو المذهب» ستفجر لاحقا «حروب المياه» داخل الدول القائمة، وهذا ما تجلى بوضوح بتهديد بعض المحافظات العراقية لنظيراتها بقطع المياه عنها، فحرب المياه الداخلية، وإن انطلقت من منابعها المذهبية، فإن تلك المنابع تتراجع حين تعلقها بحرب المياه بين الدول، ففي مشهد عده البعض الجزء المكرر والهزلي للتاريخ، قطعت جمهورية إيران الإسلامية المياه عن عدد من المحافظات العراقية ومدن كردستان، وهي محافظات غالبية سكانها من «أتباع أهل البيت»، بل إن مدينة خانقين الكردستانية غالبية سكانها من الشيعة، وكما نعلم، فإنه قد جرى تجفيف نهر الوند من قبل حكومة طهران.
في حرب مقبلة تهدد الزرع والضرع وتحيل حواضر الشرق إلى امتداد صحراوي بلا نهايات، يدرك الأكراد بأن مخزونهم المائي في أجزاء كردستان الأربعة هو الأكبر على صعيد المنطقة، هذه الميزة قد تكون أحد أسباب الرفض الإقليمي والدولي لتوحيد الأجزاء ضمن مشروع قومي، تضم جغرافيتها أكبر احتياطي للذهبين «الأسود» و«الجاري» أي (النفط والماء).
الأكراد، وبعيدا عن واقع عدم امتلاكهم دولتهم القومية وبنى تحتية لإعلان حرب المياه، فإنهم، وعبر تاريخهم ونضالهم التحرري، ورغم كل حملات الإبادة الجماعية التي طبقت بحقهم، لم يمارسوا أي شكل من أشكال الإرهاب، فكيف الحال مع «الإرهاب البيئي» الذي نشهد مقدماته والأكراد أحد ضحاياه.
إن أحد أهم أسباب الحروب التي تلد أخريات في المنطقة، وهي بطبيعتها التعبير الأدق والأكثر كثافة لطبيعة الأنظمة الحاكمة في المنطقة، هو عدم حل القضية الكردية، لأن أحداث التاريخ تؤكد وبما لا يقبل الشك أن المياه، والجغرافيا، والمصائر تكون متناحرة دون حل هذه المشكلة في العراق والمنطقة من خلال ممارسة الأكراد حق تقرير مصيرهم عبر استفتاء شعبي في كردستان.
إن مشكلات المنطقة بما فيها مشكلة المياه لا يمكن حلها دون حل القضية الكردية، وما المحاولات الجريئة بدمقرطة تركيا من خلال تغيير دستورها على خلفية الحوار بين الكرد وأنقرة إثر ثلاثة عقود من النضال التحرري الديمقراطي، الذي مارسه الأكراد في تركيا وكردستان تركيا، إلا جزء من حلول شاملة ستشهدها المنطقة، إذا تكلل الحوار السلمي والحضاري بين الطرفين التركي والكردي بالنجاح.
إن حل المشكلة الكردية عبر سياسات القمع والتآمر لا يعقد المشكلات القائمة فحسب، بل يضيف لما هو موجود وقائم؛ بما في ذلك مشكلات المياه، كما حدث حينما تنازل النظام السابق في زمن حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عن الأراضي والمياه الوطنية العراقية للجانب الإيراني، فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وكان الهدف منها القضاء على الحركة التحررية الكردية. وقد نقض هذا الاتفاق من قبل الجانب العراقي بعد الثورة الإسلامية في إيران، تلك الثورة التي اتخذت، ولظروف ذاتية وموضوعية، منحى جمهورية إسلامية، نراها أكثر إصرارا من نظام الشاه محمد رضا بهلوي على إعادة العمل باتفاقية (صدام - الشاه - بومدين) عام 1975 التي تنازل بموجبها الجانب العراقي عن نصف شط العرب، ناهيك بجزء من أراضيه الوطنية.
* تاريخ وجغرافيا
* إن مشكلة المياه في منطقتنا إذ تتضاعف مستندة إلى إشكالات تاريخية، وجغرافية، وسياسية، قائمة لا يمكن تجاهلها، وتتجه نحو التصعيد، لأن دول المنبع تتعامل مع المشكلة وفق مصالحها الوطنية من دون أي اعتبار للقوانين الدولية التي تضمن حقوق دول المصب، والأنكى من ذلك هو قيام دول المنبع باستغلال المتغيرات الجيوسياسية التي أضعفت بعض الدول، كما هي عليه الحال مع العراق الذي فقد هيبة الدولة القوية، ومن ثم خسارته موقف وموقع الند المحاور والمطالب بحقوقه المائية باستثناء مطالباته الإعلامية الخجولة، التي تهدف، في تقديري، إلى إرضاء الشارع العراقي، لأن الموقف العراقي لا يتناسب مع حجم الكارثة التي تهدد النهرين وما بينهما من امتداد لحضارات كانت البدء بكل مفرداتها وتفاصيلها.
فالعراق، الذي حمل اسم «بلاد ما بين النهرين» يعتمد على نهري «دجلة» و«الفرات»، ويتشكل الأول من التقاء نهري فرات صو وقره صو في حوض ملطية بهضبة أرمينيا التركية، ويبلغ طوله 2880 كيلومترا، موزعة على البلدان الثلاثة كالآتي: 1000 كيلومتر في تركيا، و675 - 680 كيلومترا في سوريا - بسبب التعاريج، و1200 كيلومتر في العراق. أما نهر دجلة، فيبلغ طوله 1899 كيلومترا؛ منها 44 كيلومترا في سوريا، و1415 كيلومترا في العراق، وتساهم إيران أيضا بمد النهر بروافد غزيرة نابعة من أراضيها.
المشكلة التي تحتاج حلولا جذرية تتمثل في عدم وجود معاهدة متكاملة تنظم المشاركة في مياه الفرات أو الاستغلال المشترك لها، على الرغم من وجود اتفاقيات ترسي مبادئ عامة تشدد على حقوق بلدان أسفل النهر في المياه الداخلة إلى أراضيها. أما فيما يتعلق بمياه نهر دجلة، فإن تركيا تعدها مياها وطنية عابرة للحدود، ولها حق السيادة المطلقة عليها، وأن ما تمرره من مياه إلى كل من سوريا والعراق هو تضحية منها وليس واجبا.
* سياسة إيران المائية
* الموقف الإيراني، على الرغم من العلاقة الاستراتيجية بين حكومتي طهران وبغداد التي تعمقت إثر تراجع ما طرح قبل «الربيع العربي» من مخاطر «الهلال الشيعي» وبروز مفهوم «الهلال السني» بعد النتائج الأولية لـ«الربيع العربي»، لا يختلف عن الموقف التركي؛ إذ تقوم إيران بتحويل معظم الروافد المائية التي تغذي نهر دجلة، مما يخفض المياه المتدفقة باتجاه الأراضي العراقية، ويسيء إلى نوعية المياه ويزيد من نسب التلوث.
إن السياسات المائية لجمهورية إيران الإسلامية التي عمقت الفجوة المائية في العراق، كانت محل تحذير من قبل المركز العالمي للدراسات التنموية، حيث حذر المركز من كارثة بيئية كبيرة قد تحل بمحافظات العراق الشرقية والجنوبية، إذا ما استمرت إيران في الامتناع عن إطلاق مياه بعض الأنهار، ومنها نهر الوند الذي تمتنع إيران عن إطلاق مياهه منذ أربع سنوات. وقد أدى هذا الأمر إلى أضرار بيئية كبيرة في الأراضي الزراعية، حيث تسببت في تدمير نحو 10% من الأراضي الخصبة، وساهم في تشريد أهالي العديد من القرى بسبب جفاف أراضيهم. وقد تراجع الإنتاج الزراعي لبعض المحاصيل في العراق بنسب كبيرة وصلت في بعض السنوات إلى 80% مع ترد كبير في جودتها.
إن انهيار مقومات الدولة في العراق، لا يبرر الأداء الحكومي الذي يمكن وصفه بالمشلول تجاه كارثة تصحر بلاد ما بين النهرين، فهناك، علاوة على اللجوء إلى المحافل الدولية، إجراءات عديدة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، قيام الحكومة المركزية ببناء السدود في إقليم كردستان، لأن ذلك يصب في صالح أبناء الشعب العراقي في الوسط والجنوب، وهذا يتطلب أيضا تفاهما وتعاونا بين بغداد وأربيل. إن تقنين استهلاك الماء واستخدام الطرق العلمية للسقي والإرواء، ناهيك بالاستثمار الوطني والأجنبي في مجال الماء بغرض ردم الفجوة المائية، أمور ضرورية وملحة لحل مشكلة المياه في العراق.
* سد الموصل
* إن تآكل الدولة العراقية ألقى بظلاله على تآكل واندثار بناه التحتية والإنتاجية، فعلى سبيل المثال، سد الموصل بمعدل تصريفه المائي 17500 م3/ ثا، الذي بدأ العمل به في عام 1980 وأنجز في عام 1986 لأغراض متعددة: تخزينية، تحكمية، وإنتاج طاقة كهرومائية، إضافة لإرواء مساحة قدرها 3.5 مليون «مشارة»، مهدد بالانهيار.. وفي حال حدوثه، فإن حجم الدمار سيكون كارثيا، نظرا لمخزونه المائي العالي، ودرجة الميل الكبيرة لمجرى دجلة من الموصل باتجاه الجنوب (فرق منسوب الارتفاع بين نهر الفرات ودجلة نحو 7 أمتار في الشمال)، مما يؤدي لحدوث فيضانات كارثية تضر بالمنشآت المائية والخدمية أسفل المجرى وتشريد 4 - 5 ملايين من السكان في حوض دجلة من الشمال إلى الجنوب.
إن إجراءات الحكومة العراقية لإبعاد خطر انهيار السد والمتمثلة في الحقن البيتوني المكلف، وتخفيض منسوب الماء في حوض السد، ليست بحلول جذرية لإنهاء مشكلة الانهيار المحتمل للسد، فالحل الجذري هو تنفيذ الحلول المقترحة من قبل الشركات الاستشارية المقدمة إلى وزارة الموارد المائية العراقية، لضمان سلامة السد بشكل جذري، وبالتزامن مع تلك الإجراءات، لا بد من الإسراع بإنجاز سد بخمة والسدود المقترحة الأخرى على الزاب الكبير.
إن كارثة أزمة العراق المائية لا تتمثل فقط في فقدانه مليارات الأمتار المكعبة من مياهه في السنوات السابقة، بل فيما نشر من تقارير محلية وعن منظمات دولية بأن دجلة والفرات مهددان بالجفاف في عام 2040، ومن بين هذه المنظمات «المنظمة الدولية للبحوث» و«المنتدى العربي للبيئة والتنمية» و«منظمة المياه الأوروبية»، التي أكدت بمجملها أن نهر دجلة في طريقه للجفاف الكامل.
إن للمشكلة جوانب وأبعادا (جيوسياسية - فنية)، حيث تتحكم دول الجوار متمثلة في تركيا وسوريا وإيران في نحو 85 في المائة من الموارد المائية التي تدخل العراق. أما البعد السياسي، فهو غياب المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمجة لاستغلال المياه واستخدامها بشكل قانوني يراعي حقوق دول المصب.
* الحل المقترح
* إن الحل الجذري لمشكلة المياه في العراق والمنطقة يتمثل فيما يلي:
تطبيق الإدارة المتكاملة للموارد المائية في العراق وكردستان بما في ذلك «حصاد المياه»، وذلك للحفاظ على الموارد المائية السطحية والجوفية والاستفادة القصوى منها.
إن حل مشكلة المياه في الشرق الأوسط يجب أن يجري من خلال عملية حلول شاملة لمشكلات بنيوية تشمل السياسة، والاقتصاد، والبيئة في منطقتنا، ويمكن تحديد الخطوط العامة لتلك المشكلات، وأهم حلقة لحل سلسلة المشكلات هذه تتمثل في حل المشكلات البنيوية للعراق.
كما ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار أيضا الإدارة المتكاملة والشفافة للموارد المائية بين دول المنطقة، ورفع الحظر عن كل المعلومات والإجراءات المتعلقة بالمياه، وهذا المقترح قدمته نائبا عن حكومة إقليم كردستان في «الأسبوع العالمي للمياه»، الذي أقيم في العاصمة السويدية أستوكهولم عام 2007 بحضور ممثلي دول المنطقة والعالم، إلا أنه لم يحدث أي تقدم إلى الآن.
كلنا في المركب نفس، وهذا توصيف يحتم ضرورة التواصل الإنساني لحل المشكلات السياسية في العالم، وهذا التوصيف أيضا ينبغي أن يكون شعارا لحل مشكلة المياه في المنطقة والعالم، لأن أية سياسة مائية لا تراعي دول المصب، ستؤدي بالضرورة إلى جريان نهر من المشكلات، وإيقاف التنمية والتقدم.
"الشرق الأوسط"
أرسل تعليقك