نجح الرئيس الفرنسي، من خلال استضافة وترؤس "قمة الكوكب الواحد" ، بالتشارك مع رئيس البنك الدولي والأمين العام للأمم المتحدة وحضور 50 رئيس دولة وحكومة ومئات الخبراء والمصرفيين ومديري المؤسسات العامة والخاصة والمجتمع المدني ووسط تغطية إعلامية دولية واسعة، في أن يفرض نفسه حامل راية الدفاع عن المناخ في العالم.
وما زاد من هذا الانطباع الغياب الأميركي الرسمي حيث لم ترسل واشنطن سوى موظف من الصف الثالث من سفارتها في باريس ، وخلال القمة كان صوت الرئيس الشاب الذي لم يتعد التاسعة والثلاثين من العمر هو الأقوى.
واحتضنت باريس توقيع اتفاقية المناخ في ديسمبر/كانون الأول عام 2015 ، والعاصمة الفرنسية كانت من سعى أول من أمس لإعادة تعبئة المجتمع الدولي من أجل تنفيذ التعهدات والالتزامات التي وقعت عليها الأغلبية الساحقة من دول العالم بعد أن برزت مؤشرات تدل على أجواء من التراخي لا بل من التراجع التي ترتبت بشكل أساسي على انسحاب دونالد ترمب من الاتفاقية وغياب آلية متابعة جدية للالتزامات الموقع عليها.
ولتلافي هذا النقص، فقد اقترح ماكرون عقد قمة سنوية، على غرار تلك التي استضافتها باريس خصوصًا لمتابعة الإجراءات الـ12 التي أعلن عنها نهاية الاجتماع لقياس مدى التزام الدول الموقعة على اتفاقية باريس بالأهداف الرئيسية وأهمها العمل على ألا تزيد حرارة الأرض على درجتين قياسًا لما كانت عليه قبل العصر الصناعي ، كما أن الخبراء الذين تعاقبوا على الحديث في الاجتماعات الرئيسية وورشات العمل الثلاث أكدوا أن الاستمرار على المنوال الجاري سيعني تجاوزًا خطيرًا للسقف الموضوع لا بل الوصول إلى ثلاث درجات ونصف ، وهذا الواقع دفع الرئيس ماكرون إلى التأكيد أن العالم بصدد خسارة معركة المناخ.
وتمثلت أهمية القمة خصوصًا في رغبة المشاركين في إبراز أن تحقيق أهداف اتفاقية باريس ليس حكرًا على الحكومات والجهات الرسمية بل هو شأن يخص الجميع أكان ذلك من المواطنين أم المؤسسات والشركات الخاصة أو المجتمع المدني.
يضاف إلى ذلك، أن المنظمين الثلاثة حرصوا على وضع أصحاب المشاريع الصغيرة والكبيرة وجهًا لوجه مع الممولين من أي أفق جاءوا ، وكان لافتًا تركيز القمة على الوصول إلى اقتصاد غير كربوني.
وفي هذا السياق، برز تأكيد رئيس البنك الدولي جيم يونغ أن المؤسسة العالمية ستتوقف عن تمويل مشاريع التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما اعتبارًا من 2019 ، وهذا الإعلان بالمؤسسات المصرفية والشركات الكبيرة على التأكيد على تعهداتها بالابتعاد عن الوقود الأحفوري المسبب لارتفاع حرارة الأرض ، كما ذهبت أبعد من ذلك بالإعلان عن تخصيص مليارات الدولارات لوقف العمل في مشاريع الفحم والنفط والغاز.
ويبدو دور البنك الدولي مهما في تحقيق أهداف اتفاقية المناخ بالنظر لثقله وقدرته في التأثير على اقتصاد العالم. وأعرب رئيسه عن العزم على العمل معكم جميعًا لوضع السياسات الصحيحة في مكانها وجعل محركات السوق تسير في الاتجاه الصحيح ووضع المال على الطاولة وتسريع العمل.
وتعهد ممثل عملاق البنوك البريطاني "إتش إس بي سي" بممارسة حملة للضغط على الشركات الكبرى التي تصدر انبعاثات مسببة للاحتباس الحراري لمراعاة البيئة بشكل أكبر ، وأعلن ممثل بنك "بنك إينغ" الهولندي أن المصرف الذي يمثله سيتوقف بشكل شبه كامل عن تمويل مشاريع لتوليد الطاقة من الفحم في حلول 2025.
ويعترف الخبراء بأن الأخطار البيئية التي تهدد الأرض "ليست موزعة بالتساوي" بين البلدان الغنية والمصنعية وبين البلدان الفقيرة وفي طور النمو ، وثمة توافق مبدئي على أن تقوم الدول الغنية بمساعدة الدول النامية على السير نحو ما يسمى "الاقتصاد الأخضر" أي غير المتسبب بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
ومما اتفق عليه أن توفر الدول الغنية 100 مليار دولار سنويًا للدول في طور النمو بدءً من العام 2020 والحال أنه حتى الآن، لم تتبين بعد الطريقة التي سيتم بموجبها جمع هذه المبالغ ، لذا فإن الإعلان في المؤتمر عن الالتزام بتوفير 300 مليون دولار لمحاربة التصحر بدا ضعيفًا لمواجهة الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتأتية عن تسارع التصحر في الكثير من البلدان الأفريقية.
فيما تشكو البلدان الأوروبية من ظاهرة الهجرة ومن تأثيراتها في الداخل الأوروبي، فإن تقاعس الدول الغنية عن الوفاء بالتزاماتها المالية سيزيد من صعوبات البلدان المتأثرة بالتصحر وبالتالي من الصعوبات البلدان التي يقصدها المهاجرون.
وبقيت في الأذهان كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطوني غوتيريش الذي أعلن أن التغير المناخي يهدد مستقبل قدرة البشر على العيش في كوكب الأرض ، مضيفًا أن ذلك يفرض حربًا وجودية على البشرية ، ودعا غوتيريش الحكومات والشركات ورجال الأعمال إلى الاستثمار في المستقبل والاستفادة من التقدم التكنولوجي والعلمي الذي تشهده البشرية.
بيد أن منظمي المؤتمر الثلاثة فضلوا التركيز على إيجابيات القمة وما أنتجته من توافق بين الأطراف المشاركة ولفت الأنظار إلى الحلول التي يأتي بها التقدم العلمي لمعالجة التغيرات المناخية وضرورة أن تتجذر في الممارسة اليومية لسكان الأرض.
بالطبع، لم ينج الرئيس الأميركي من الانتقادات الحادة التي وجهها إليه المشاركون بمن فيهم الأميركيون ومن أبرزهم وزير الخارجية السابق جون كيري وكذلك مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس.
وبعكس رؤية ترمب من أن الإنسان ليس مسؤولًا عن التغيرات المناخية، فإن الحاضرين برهنوا العكس وبينوا أن التغيرات المناخية تنذر بكوارث ستصيب البشرية أكان ذلك التصحر أم الجفاف أو ارتفاع مستوى المياه بسبب ذوبان الجبال الجليدية ، قمة جاءت بالكثير من الوعود ، لكن الأهم هو مدى الالتزام بها وترجمتها إلى برامج عملية ، لكن هذه مسألة أخرى.
أرسل تعليقك