تونس / مصراليوم ـ أسماء خليفة
تونس / مصراليوم ـ أسماء خليفة
لاشيء يثني هذه السيدة، الخالة سيدة سعيداني، عن الخروج نحو التظاهر بشكل شبه يومي، فهي لا تُخلف موعدا يطالب بمحاسبة وزير او إسقاط حكومة او اطلاق سراح مسجون او ينادي بإطلاق الحريات. هي تتواجد حيث الاحتجاج وأياً كان عنوان المسيرة. من هي ؟ وما الذي يدفعها الى كل هذا الانضباط للتظاهر برغم سنها الطاعنة ؟ وكيف تتابع اخبار مواعيد المظاهرات والاحتجاجات؟ ومن يمدّها بخارطة هذه التظاهرات؟
وماهي مطالبها؟أسئلة تجمعت لدينا ونحن نتوجه نحو منزلها بعد ان حصلنا على موعد معها في صباح خلت فيه اجندتها من اي موعد احتجاجي.
عميدة المحتجين
تتعثّر الخالة سيدة سعيداني في سنوات شيخوختها، 74 سنة، وهي تقودنا الى حيث تقيم في العدد 10 من نهج بن عبد الله بالمدينة العتيقة وسط العاصمة تونس. وكانت برغم قصر نظرها والاصابة البليغة في عينها اليسرى تحفظ بدقّة ازقة المدينة العتيقة وشوارعها تماما كما تحفظ وجوه الناس.
رافقناها بين أزقة تراصت فيها محلات بيع الملابس الجاهزة الخالية من الزوار وصولا الى مقر اقامتها في الوكالة البلدية بنهج بن عبد الله (مأوى خاص بفاقدي السند والفقراء). كانت الفضلات تنتشر بشكل كريه في مدخل المأوى الآيل نصفه للسقوط والذي يأوي غُرباء ينتظرون صباحا جديدا يكون لهم لا عليهم.
على يسار مدخل المأوى- والذي كان سابقا مركزا للشرطة ومدرسة ابتدائية- تُوجد غرفة الخالة سيدة. "كانت هذه الغرفة زنزانة انفرادية في مركز بن عبد الله سابقا" هكذا قدّمت لنا محدثتنا مكان اقامتها.
كانت الغرفة ضيقة تتسع لسرير وخزانة وفرن وتلفاز صغير ولاقط هوائي وشعار كبير يقول: (مساواة حقيقية تساوي مواطنة فعلية) معلق في المدخل.
طلبتُ من الزميل المصوّر ان لا يلتقط صورا لغرفة الخالة سيدة احتراما لخصوصياتها، فنحن لم نأت لننقل صورة عن فقرها بل جئنا للتعرّف على شخصية تونسية وُلِدت من رحم الاحتجاجات.
فقر الخالة سيدة وحاجتها الشديدة للمساعدة على تلقي العلاج وتوفير الادوية لم يمنعاها من خوض تجربة الاحتجاج المستمر في الشوارع.
بدأت حديثها معنا بالقول "من خلال مشاركاتي في الاحتجاجات منذ الثورة جمعت صداقات كثيرة وصار بعض الأصدقاء يتصلون بي ويطلبون منّي المجيء لمظاهراتهم لتعزيزها. انا لا أتردد في المشاركة وصرت مقتنعة اليوم ان الثورة التونسية في خطر وان مصادرة الحريات تتفاقم فرجل الأمن الذي ينذر مرؤوسيه الى خطر أو خطأ تتم ملاحقته بدليل سجن نقابي السجون المعزول وليد زروق والإعلامي الذي يكشف الحقيقة يطاردونه بالقضايا الوهمية ،وهو حال الصحفي زياد الهاني، وأيضاً حال الفنانين ملاحقين بدليل مقاضاة المخرج السينمائي الذي رشق وزير الثقافة ببيضة، كلّنا سنصبح ملاحقين "اللي يتكلّم يسكتوه" لأجل هذا أنا على ذمّة المحتجين في الشوارع" .
معركة الحرية
تتثبّت في ملفها الصحّي قبل ان تطلعنا عليه ورقة ورقة مشيرة بسبّابتها الى موعدها البعيد لإجراء عمليّة جراحيّة على عينها اليسرى (في شهر فبراير من العام الجديد) قبل ان تضيف "انا اصيلة احد احياء العاصمة وأم لابنة وحيدة وجدة لسبعة أحفاد. انا متضامنة مع معارك الحرية. وقد سبق لي ان تطوّعت كمنجدة للجرحى في معركة الجلاء ببنزرت في ستينات القرن الماضي (جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسيّة)".
انتقلت الخالة سيدة للسكن في المأوى البلدي بنهج بن عبد الله عام 2001 بعد ان عجزت عن خلاص معلوم تصوّغ منزل كانت تسكنه لسنوات طويلة في نهج الحكيم كسّار في حي الحفصيّة.
وامتهنت التجارة كمورد رزق اذ كانت تزور دولة الجوار ليبيا لتقتني كميّة من الحجابات تفوّت فيها بالبيع في الأسواق التونسية. وصادف ان تمّ حجز بضاعتها في احد أسواق محافظة باجة شمال غرب تونس والتحقيق معها حول سبب ترويجها للحجاب "من هنا بدأت تسكنني الضغينة تجاه النظام القائم فلم أتردد في التفاعل مع قضيّة الحوض المنجمي (محافظة ڤفصة جنوب غرب تونس) عام 2008 متى كانت قوات الامن تعنّف وتعتقل المحتجين فكنت مرّة أخرى تحت أعين الشرطة وينظرون إليّ بعين مسترابة حول ما إن كنت أنشط بدعم من الإسلاميين خاصة وأنني كنت محجبة حينها قررت التوجه نحو ليبيا لأختفي لبضعة أيّام حتّى تهدأ الأوضاع.
تذكر الخالة سيدة جيّدا تلك الليلة التي خطب فيها الرئيس الأسبق بن علي لآخر مرة "ليلتها لم أنم وكنت قد عدت الى تونس. صباح 14 يناير/كانون الثاني خرجت الى شارع الحبيب بورقيبة والتقيت إحدى الصحفيات وكنت غير متمكنة من فهم الوضع رافقتها الى مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ثمّ عدت معها الى شارع بورقيبة وكان كلّ أملي يومها ان يرحل بن علي خاصة وأنّه اصبح هناك دم بينه وبين الشعب (مجزرة القصرين في الليلة الفاصلة بين 8 و9 يناير/كانون الثاني 2011)".
تاريخ التحرّك
في شارع الحبيب بورقيبة مدّ احدهم لافتة للخالة سيدة كُتِب عليها "ديقاج" (ارحل) تقول إنها رفعتها بحماسة طلبا لرحيل بن علي حتّى تفاجأت بالغاز المسيل للدموع والرصاص ينهال على المحتجين "نجحت في الدخول إحدى البنايات العالية لشارع الحبيب بورقيبة وصعدت الى غرفة السطح لاختبئ كنت خائفة جدا لذلك هاتفت جارتي جميلة اخبرها عن مكاني وطلبت منها المجيء الي هي وابنها صباح اليوم التالي لنقل جثتي في حال لم اعد مساء الى غرفتي".
لكن تفرق جموع المحتجين والهدوء النسبي الذي ساد العاصمة قُبَيْلَ إعلان مغادرة بن علي نحو السعودية سمح لها بمغادرة مخبئها والتوجه الى مقر اقامتها في نهج بن عبد الله.
ومنذ ذلك التاريخ تعوّدت الخالة سيدة الخروج صباحا نحو الشارع للانضمام الى صفوف المحتجين.
"صباح 15 يناير/كانون الثاني كنت على مقربة من ساحة برشلونة (اكبر محطات القطار في تونس) وفجأة بدأ اطلاق الرصاص فاخذني عون امن الى مركز الشرطة بنهج شارل ديغول لحمايتي اين وجدت الأعوان في حالة استنفار قصوى والمعلومات ترد لحظة بلحظة عن تواجد قناصة في البحيرة (احد الاحياء الراقية في تونس) وغيرها وكان صوت الكوبتار (تقصد طائرة الهيليكوبتر) وهي تحوم فوق أحياء العاصمة يعلو في كل مرة" على حد قول الخالة سيدة.
بعدها شاركت الخالة سيدة في اعتصام القصبة طلبا لتنحّي محمد الغنوشي "لم اكن مرتاحة لنظراته ليلة اعلن توليه قيادة الدولة" كما شاركت في اعتصام المصير بساحة حقوق الانسان ولم اتخل عن اي مسيرة الى انّ تغيّر الامر وبلغنا مرحلة الاغتيالات".
عداء للنهضة
كانت الخالة سيدة من انصار القطب الحداثي في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي نهاية العام 2011 مبررة هذا الاختيار بالقول "ناس نظاف".
تطلق محدثتنا زفرة قبل ان تضيف "ناديت النساء للمشاركة بكثرة في الانتخابات ونبّهتهنّ الى ضرورة عدم التصويت للاسلاميين لأنني اعرف هؤلاء جيّدا ففي رصيدهم احداث عنف لا تُنسَى بدأًً بحادثة حرق حارس مكتب حزب الدستوريين بماء حارق (ماء الفرق) حتى الموت بحي باب سويقة بالعاصمة. انا اعرف جيدا تاريخ الاسلاميين ودعوت الى مقاطعتهم فهم جاؤوا لتكفير الناس نحن لا ننتظر حركة النهضة كي تعلّمنا صلواتنا او شهادتنا او صيامنا نحن طردنا بن علي من اجل اعلام حر وقضاء مستقل وأمن جمهوري في خدمة الشعب وليس في خدمة الاحزاب".
وتقتنع الخالة سيدة التي تبدو على دراية واسعة بمجمل ما يحدث من تطورات سياسية في البلاد ان ثلاثية الاعلام الحر والقضاء المستقل والأمن الجمهوري هي الضامن الحقيقي للديمقراطية.
تتنهّد وهي تتحدث عن هذه الثلاثية قائلة : "أتمنى تحقيق هذا الحلم التونسي من اجل احفادي واتمنى ان أرى هذا الحلم يتحقق قبل ان اموت. ما فهمناه من تجربة حكم النهضة هو انها تستنسخ تجارب حكم من سبقها نحو القمع والاستبدادي لذلك من حقي ان أقول النهضة لا مكان لها في السلطة لا لعودة الحزب الواحد لأجل هذا انا أشارك في المسيرات وادعم الاعتصامات لازاحتهم من الحكم هذا واجب وطني فالمناضلون هم من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشهداء مثل الشهيد شكري بلعيد والشهيد الحاج البراهمي".
حول الأزمة السياسية الحالية تقول الخالة سيدة وهي تتعثّر في خطاها في مرافقتنا الى شارع الحبيب بورقيبة "الوضع الحالي ينطبق عليه المثل الشعبي القائل "القطرة جات في الرأس وين الهروب يا ناس" هذا هو بالضبط ما تعيشه حركة النهضة اليوم ووجب عليها الالتزام بخطة الرباعي لإنقاذ تونس فالوضع الذي نعيشه اليوم تاريخي من حيث الخطورة والدقة انا لا اتمنّى فعلا ان يقود الغرور السياسي هذه الحركة نحو العنف". هكذا تتحدّث الخالة سيدة وهي تتقدم في طريقها ببطئ وتخال نفسك احيانا وانت تستمع إليها انك ترافق أحد الساسة او احد المحللين السياسيين العارفين بمجمل تفاصيل ما يحدث في الساحة ولست ترافق مسنّة أميّة تصرف يومها بين المسيرات وتعود لتمضي ليالي وحدتها في زنزانتها الانفراديّة.
أرسل تعليقك