تشير عدة دراسات نُشرت في عام 2013 بشأن سر التميز في الرياضيات إلى هذه الكفاءة الفطرية، معتقدين أن هذا الأمر سيكون حجر أساس لتعزيز القدرة على تعلم الحساب سريعًا مع قليل من التوجيهات والتعليمات، فقد حدد الباحثون الاختلافات الهيكلية في أدمغة الأطفال الذين استجابوا أفضل استجابة إلى دروسهم، وتقول عالمة النفس (Elizabeth Brannon) – من جامعة Duke -في دراسة قد نُشرت في أكتوبر 2013: «معًا، ستؤدي نتائج البحث الجديدة في نهاية الأمر إلى إيجاد أفضل الطرق لمساعدة الأطفال في إتقان الرياضيات»، وقد قامت (Elizabeth Brannon) وزملاءها من جامعة (ديوك –Duke ) وجامعة )جون هوبكنز-Johns Hopkins ( بعمل تجربة على أطفال تتراوح أعمارهم من 6-48 شهرًا عبارة عن متسلسلة من مصفوفات نقطية تتغير دوريًا في عدد نقاطها.
واستطاع الباحثون استنتاج قدرة هؤلاء الأطفال، عن طريق ملاحظة قدرتهم على اكتشاف الاختلافات في كمية النقاط الموجودة في المصفوفة معتمدين على المدة التى استغرقوها في النظر إلى المصفوفة بعد تغير تنظيمها النقطي، وكما هو متوقع، فقد وُجِد أن بعض الأطفال لديهم حس متوقد تجاه حصر الكميات أكثر من أقرانهم، وبعد مرور 3 سنوات، أعاد الباحثون التجربة على نفس الأطفال، لاختبار مهارتهم الرياضية مرة أخرى، مثل قدرتهم على معرفة عددهم، وقدرتهم على العد حتى 10، وقد وجدوا أن الأطفال الذين كانوا ذوي 6 أشهر (في التجربة الأولى) هم الأكثر براعة في الرياضيات بعد بلوغهم الثالثة، بغض النظر عن ذكائهم بشكل عام، أيضًا لن نُعلق الأمر على الجانب الوراثى، فقد نُشرت دراسة في أغسطس 2013 من قِبل Elizabeth) Brannon ( وزميلها (Joonkoo Park)، تطوع فيها 52 متطوعًا بالغًا، لاختبار صحة بحث متعلق بمدى تأثير شحذ حواس المتطوعين، وهل سيزيد من مهارتهم الرياضية أم لا؟
في البداية، وجدوا أن المشاركين قد واجهوا عدة مشكلات مع الحساب، ثم قام نصف عدد المتطوعين بالاستماع إلى 10 محاضرات ليتعلموا كيفية تقدير الكثير من المصفوفات النقطية وممارسة الحسابات العقلية المعقدة على تلك المصفوفات، وعلى النقيض، لم يشارك النصف الآخر في أي تدريب، بعد ذلك، تم وضع جميع المتطوعين في اختبار لإنهاء معضلات حسابية مرة أخرى، فوجد الباحثون أن المتطوعين الذين شاركوا في تمرينات النقاط (محاضرات التقوية)، قد تحسنوا بشكل ملحوظ مقارنة بالمجموعة الأخرى.
تلك الدراسة وغيرها، تبرهن على أن الحس الرقمي الفطري والقدرة الرياضية المجردة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببعضها، ولذلك يمكن تحسين أحدهما بمجرد تطوير الأخرى، وفقاً لما قالته الدكتورة ( Brannon ) للأطفال الصغار، واستطردت قائلةً «إن الألعاب التي تعمل على ثقل الحس الرقمي، ربما تكون ذات تأثير ضخم على تعليم الرياضيات»، هذا بالإضافة إلى أبحاث أخرى نُشرت في إبريل 2013 تساعدنا على تفسير سبب استجابة بعض الأطفال إلى دروس الرياضيات الخاصة بشكل أفضل من غيرهم، أجرى علماء من جامعة ستانفورد تجربة على 24 طالبًا من الصف الثالث عبارة عن برنامج دراسي خاص بالرياضيات – لمدة 8 أسابيع – فوجدوا بعدها أن الكفاءة الرياضية للطلاب قد تحسنت بمعدل 8-198 %، بغض النظر عن أي علاقة بمستوى الذكاء والتذكر والقدرة على اجتيار القدرات، وإنما اعتمد على إظهار تأثير ( تصوير دماغ الأطفال )، وقد اظهرت أن الأطفال الذين استفادوا أكثر من أقرانهم، لديهم الجزء المسمى بـــ(الحصين- hippocampus)، الموجود في داخل المخ – أكبر من أقرانهم ،والحصين منطقة مسئولة عن تخزين الذاكرة، بالإضافة إلى أن الوصلات العصبية التي بين منطقة الحصين والدماغ (المعنية بالذاكرة طويلة المدى وإنشاء العادات اليومية) أقوى من الآخرين، وهذا ما يمنحنا الدليل على كيفية قيام المخ باستخدام أنظمة الذاكرة لكي ينشأ معرفته، هذا وفقًا لما قالة عالم الأعصاب (Vinod Menon) من جامعة ستانفورد والمؤسس الرئيسي لتلك الدراسة.
ويشير إلى أن نتائج التجربة ستلقي الضوء على كل الجذور التي تعيق عملية تعلم الرياضيات، والتي ستؤدي إلى تطوير البرامج التعليمية للأطفال الذين يعانون من تعلم الرياضيات.
اسباب قلق الرياضيات، الذكاء الموروث أم سلوكيات الوالدين؟، جميعُنا يعلمُ بأنﱠ بعضَ الناسٍ أفضلُ منْ غيرهم في الرياضيات، وفي أغلب الأحيان فإنﱠ بروزُ هذه المهارات الرياضياتية (أو عدمها) يسري في العوائل (أي ينتقل من الوالدين إلى الأبناء)، مؤخراً، قام فريقٌ منَ الباحثين منْ جامعة شيكاغو بالبحث فيما إذا كانت براعةُ الناسِ الرياضياتية تتأثرُ أكثر بالعواملِ الوراثية أم بالعوامل المحيطة.
وقامَ فريقُ البحثِ بتحليلِ المهاراتِ الرياضياتية لـ400 طالبٍ في الصفﱢ الأولِ والثاني الإبتدائي مرتينِ في السنة، المرةُ الأُولى في بدايةِ العامِ الدراسي والمرةُ الثانية في نهايته. وقد طُلِبَ مِنْهُم أيضاً توضيحُ كيفيةِ شعورهم في الحالاتِ المرتبطة بالرياضيات كالإختبارات أو عندَ طلبِ الأُستاذِ منْهُم إجابةَ سؤالٍ إضافيٍ يطرحُهُ عليْهم. وقدْ شمل الإستطلاعُ أيضاً سلوكَ آباءِ وأمهاتِ الأطفالِ تجاهَ الرياضياتِ وتمﱠ سُؤالُهم عنْ عدد المراتِ التي ساعَدوا فيها أطفالهُم في واجبهم المنزلي خلالَ العامِ الدراسي.
وكشفتِ نتائجُ البحثِ في نهايةِ العامِ الدراسي بأنﱠ وجُود أبوينِ يعانيانِ منْ قلقِ الرياضيات لم يكُن كافياً بمُفرده كمؤشرٍ على درجات الطلاب. بدلاً منْ ذلك، تم ملاحظةُ بأنﱠ الطٌلاب الذينَ لديهِم أبوينِ يُعانيان منْ قلقِ الرياضيات ويساعدانهم في واجباتهم المنزلية هُم فقط الذين عانوا منْ ضعفٍ في تعلٌمِ الرياضيات خلالَ العام الدراسي واكتسبوا قلقاً من الرياضيات مشابهاً للذي لدى أبويهم. أما الطُلاب الذين لديهم أبوين يعانيان من قلق الرياضيات ولكن لم يساعداهم في واجباتهم المنزلية فلم يُظهروا نفسَ النتائج. وهذا يقترحُ بأنﱠ جينات الأبوين ليست هي العاملَ الوحيد الذي يُساهم في إضعافِ مهاراتِ أبنائهم الرياضياتية، بل أنﱠ الأجواء المتوترة التي يخلُقها الأبوان عندَ مُساعدة أبنائِهم في حلﱢ الواجباتِ المنزلية تُساهم كذلك في إضعافِ المهارات الرياضياتية لأبنائهم، “نحنُ لا نفكر غالباً بأهميةِ سلوكياتِ الأبوين تجاهَ أبنائِهم وكمْ لها من تاثيرٍ على تحصيلهم العلمي” هذا ما أوضحه أحدُ المُؤلفين المشاركين في البحث في تصريحٍ لهُ وأضاف قائلاً:”وهنا يجبُ أن نوضِح بأنﱠ قيامَ أحد الوالدين بتكرار جملٍ تثبيطيةٍ أمام أطفاله مثل ‘أنا أكرهُ الرياض
يات‘ أو ‘هذه المادةُ تدفعُني للجنون‘ قد يؤدي إلى التقاط هذه الجمل من قبل الأبناء وبالتالي ستؤثر سلباً على نجاحهم.”
وفي دراسةٍ حديثةٍ أُخرى تدعمُ هذه النظرية، وجَدَت بأنﱠ جميعَ مناطق الذكاء في الدماغ تتأثرُ بنفسِ الجينات. وفقاً للبحث، فإن الأطفال يرثونَ ذكاءاً شاملاً في جميع المجالات وهؤلاء الذين يعانون من مجالِ واحدٍ فقط (مثل الرياضيات) فيعودُ سببُ معاناتهم هذه إلى العوامل المحيطةِ بهم وليس لإفتقارهم للمهارة، مع ذلك، فإن هذه النظرية قد لا تُفسر جميع حالات قلق الرياضيات. فبالنسبة لبعض الطُلاب فإنﱠ وراثتهم لعوامل جينية تساعدُ على تطور القلق لديهم وكذلك وراثتهم لجيناتِ ذكاءٍ منخفضة قد تؤدي إلى إصابتهم بنمطٍ موروثٍ من قلق الرياضيات، وهي ظاهرةٌ حقيقية وقد عانى منها الكثيرون، وهي ليست إنعكاساً لقدرة الطالب الحقيقية في الرياضيات بل هي مُشكلةٌ عاطفيةٌ من الممكن أن تتداخل مع عملية التعلم لديه. وفقاً للباحثين، فإن تحديد السبب الرئيسي لقلقِ الرياضيات لدى الطالب من الممكن أن يقود إلى إيجاد برامجٍ تعرضيةٍ لمساعدة الطُلاب في الوصول إلى أعلى درجةٍ في التعبيرعن إمكانياتهم الكامنة
التميُّز في الرياضيات ليس حكرًا على الذكور، عندما اقترح رئيس جامعة هارفارد لورانس سامرز في عام 2005 أن الاختلافات الفطرية بين الرجال والنساء قد تفسر عدم وجود نساء في المناصب العلمية والهندسية العليا (واستقال بعدها)، كان يشير إلى فرضية التبايُن الأكبر بين الذكور. ووفق هذه الفرضية، فإن النساء في المتوسط يتمتعن بنفس القدرات التي يتمتع بها الرجال في الرياضيات، ولكن هناك اختلافًا فِطريًّا أكبر في المهارات الرياضية بين الرجال.
وبعبارة أخرى، هناك نسبة أكبر من الذكور تتعثر في الرياضيات، لكن هناك نسبة مرتفعة منهم أيضًا تتفوق فيها بسبب وجود شيء ما في طريقة تطور أدمغتهم. وهذا من المفترض أن يفسر سبب تفوُّق الذكور في منافسات الرياضيات وسيطرتهم عليها، كما يفسر السبب الذي يجعل الرجال أكثر عددًا من النساء في أقسام الرياضيات في كُبرَيات الجامعات. ومنذ ذلك الحين، وضع العلماء فرضية التبايُن في موضع اختبار، غير أنها لم تثبت صحتها في وجه الاختبار، وفي أكثر دراسة طموحة أُجريت حتى اليوم، عمل جوناثان كين -أستاذ الرياضيات من جامعة ويسكونسن بمدينة وايتووتر، وجانيت ميرتز، أستاذ علم الأورام بجامعة ويسكونسن بمدينة ماديسون- على تحليل البيانات حول الأداء في مادة الرياضيات في 52 بلدًا، تتضمن مجموع النقاط في كُبرَيات المنافسات مثل أولمبياد الرياضيات العالمية
وقام الباحثان تحديدًا بفحص التبايُن؛ الفارق التقريبي في مجموع النقاط. وأظهر هذا التحليل وجود نمطين، كما جاء في الورقة البحثية التي نُشرت في دورية “نوتسيس أوف ذي أمريكان ماثيماتيكال سوسايتي” Notices of the American Mathematical Society. النمط الأول هو أن التبايُن بين الذكور والإناث متعادل تقريبًا في بعض البلدان، أما النمط الثاني فكان أن نسبة تبايُن الذكور إلى تبايُن الإناث تختلف بشكل كبير من بلد إلى آخر. وقد تراوحت هذه النسب بين0.91 و1.52 (إذ تعني النسبة 1 أنه لا فرق في تبايُن الجنسين، بينما تعني النسبة الأكبر من 1 أن نقاط الذكور كانت أكثر اختلافًا مقارنة بالنساء)، وكانت حقيقة أن تبايُن الذكور يفوق تبايُن الإناث في بعض البلدان، لكنه أقل منه في بلدان أخرى، وأن كليهما يختلف –كما تقول ميرتز- “في كل البلدان تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون فطريًّا على المستوى البيولوجي، إلا إذا أردت أن تقول إن الجينات البشرية تختلف من بلد لآخر. ويجب أن تعكس الغالبية العظمى من الاختلافات بين أداء الذكور والإناث العوامل الاجتماعية والثقافية”، هل هناك أمثلة على هذا؟ ثمة دليل يظهر من هذه النتيجة، وهو أن مقياسًا يُستخدم على نطاق واسع لقياس المساواة بين الجنسين -يسمى “المؤشر العالمي للفجوة بين الجنسين”- يتفق مع نسبة البنين مقابل البنات الذين جاءت نتائجهم في الخَمسة في المئة الأوائل في منافسة دولية في الرياضيات تسمى “البرنامج الدولي لتقييم الطلبة” أو “PISA”.
ونَلحظ في بعض البلدان، مثل جمهورية التشيك، أن توزيع النتائج في الرياضيات للبنين كان يتطابق تقريبًا مع البنات. وثمة دليل آخر على أن الفروق بين الجنسين في الرياضيات ليست فطرية يتمثل في تقلص الفجوة بين الجنسين. في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت نسبة الذكور إلى الإناث الذين فاقت علاماتهم 700 في اختبار القبول في الجامعات الأمريكية SAT لمادة الرياضيات قد انخفضت من 13:1 في سبعينيات القرن العشرين إلى3:1 في تسعينيات القرن نفسه.
ووصف أستاذ علم النفس بجامعة كورنيل ستيفن ساسي هذا التحليل الجديد بأنه “حجة بالغة الأهمية” في الجدال حول مصادر الفروق بين الجنسين في الوظائف في مجال الرياضيات. لكنه أضاف أن النتائج لا تعني أن البيولوجيا لا تؤدي أي دور؛ فحقيقة أن النظام الغذائي مثلًا يؤثر على طول قامة الإنسان لا يعني “أن الطبيعة غير مهمة”. والآن، وبعد أن أثبتت فرضية التباين الأكبر بين الذكور أنها ليست على مستوى الصحة والدقة المطلوبَين، فإن الطبيعة ربما لا تؤدي دورًا بالأهمية التي كان يظن العلماء سابقًا.
أرسل تعليقك