الدار البيضاء ـ سعيد بونوار
مئات الآلاف من الزوار المغاربة والأجانب يمرون يوميا بجانب قبة بيضاء على بعد أمتار من جامع الكتبية أشهر معلمة أثرية في مراكش، بعضهم يختارها مكانا للقاء صديقة أو عقد موعد، والبعض الآخر يستند على حيطانها لتدخين سيجارة، وقليلون من يسألون عن الراقد في هذه القبة/الضريح، بل إن المراكشيين أنفسهم يجهلون هوية دفين القبة الذي اتخذ مكانا حيويا على بعد أمتار من "جامع لفنا".وينتاب الاستغراب
ذاته المارين بجانب قبر مكشوف محاط بسياج حديدي اتخذه البعض موقفا للدراجات. القبة والقبر نموذجان لواقع الإهمال الذي تشهده آثار مراكش، التي باتت تختفي رويدا رويدا، وهي تتطلع إلى هذا الإمتداد المريب لأخطبوط العمران.
إهمال يبدأ من عجز سلطات المدينة، التي فكرت في توزيع عربات على باعة العصير وماسحي الأحذية والأكلات الخفيفة، ولم تفكر في وضع شاهد على قبر تاريخي أو "رخامة" للتعريف بدفين القبة البيضاء في مراكش الحمراء.
القبة هي لـ"لالة زهرة الكوش"، وهي امرأة تقية كانت زاهدة في الحياة على عهد السعديين، وكان أن أعجب بها أمير سعدي وقرر الارتباط بها، إلا أنها رفضت، فسعى إلى الانتقام منها، إلا أنه لم يستطع ذلك حين جاءه من أخبره في منامه أن عليه أن يوقر المرأة الفاضلة، لذلك أمر باحترامها، ولما ماتت دفنت في المكان ذاته، وشيد لها ضريحا تحول في ما بعد إلى مزار للنساء.
والقبر المهمل هو لأبي السداد، وكان يهوديا وأسلم على يد عبد العزيز الدباغ، الذي يعد من كبار الصوفية، وقد حسن إسلامه وتحول إلى داعية بدوره وجاء ذكر ذلك في كتاب "السعادة الأبدية" لابن الموقت.
المثالان هما لأثرين، والبقية تحتاج إلى صفحات، فبعض المواقع العائدة على عهد المرابطين والموحدين تعيش اليوم على واقع الهدم في انتظار الجرد الذي وعدت به وزارة الثقافة، وفي التفاف حول قرارات"اليونسكو" التي جعلت عدداً من المواقع في المدينة المذكورة تراثاً إنسانياً عالمياً.
وقال محمد متفكر، الأستاذ الجامعي والباحث المغربي في التراث لـ"مصر اليوم" إن الأثار التاريخية في مدينة مراكش تشهد إهمالاً فظيعا يسيء إلى تاريخ المدينة والمغرب عموماً، إذ أن بعضها تحول إلى مطارح للنفايات، ومستودعات لمعدات جمع القمامة، وأسوار تاريخية تحولت إلى مرافق للتبول".
وأشار الباحث إلى أن بعض هذه الآثار أصبحت أسوأ مما كانت عليه في السابق، ومنها ضريح يوسف بن تاشفين الذي لا يليق بزعيم كبير ومؤسس للدولة المرابطية، واستغرب تفويت تدبير هذا الضريح إلى مادحين للاسترزاق، بعد أن كان من المفترض أن يكون هذا الضريح في مستوى عظمة أول أمير للمسلمين، ودعا إلى تحويل ضريحه إلى متحف أو خزانة للدولة المرابطية.
وصرح الباحث: "بإن عدداً من المساجد التاريخية بدورها طالها الإهمال ومنها جامع بن يوسف، داخل المدينة القديمة، ومسجد القصبة الذي شيده يعقوب المنصور الموحدي".
ولم يفت الإهمال خزانة بن يوسف التي كانت تضم أعرق المخطوطات في الغرب الإسلامي، وكان يحج إليها كبار العلماء من الشرق والغرب، وكانت تحتضن أقدم مصحف في المغرب بخط "الرشيد الموحدي". والتي لم تعد الآن تزود بالكتب الجديدة إلى درجة أن خزانات الجامعات بدت أحسن حالا منها.
وأشار الباحث إلى أن الإهمال طال أيضا "المنارة" التي شيدها عبد المؤمن الموحدي، وبنى فيها صهريجاً لتعليم الجنود السباحة، وكذا "جنان أكدال" الذي بدأ العمران يزحف حولها في أفق تحويلها إلى مركبات سكنية.
وقال المدير الجهوي لوزارة الثقافة بجهة مراكش، أمين بنيوب "إن عدداً من الآثار التاريخية في المدينة والنواحي تشهد تهيئة وترميما منذ 1998، وأن الوزارة تبذل مجهودات جبارة للعناية بالآثار التابعة لإدارتها، ومنها "دار الثقافة، وخزانة ابن يوسف، وقصر البديع، وقصر الباهية، ودار سي سعيد، وقبور السعديين والأسوار وغيرها".
وأشار بنيوب إلى أن أشغال الترميم تتطلب ميزانيات ضخمة ودراسات وأن هناك خبراء يتولون هذه المهام، وأن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض.
ونفى المدير الجهوي وجود أي إهمال لهذه الآثار، مشدداً على أن الأثر التاريخي الوطني في كل تفرعاته وامتداداته هو في صلب اهتمامات وزارة الثقافة، وأن جهات أخرى تتداخل في الإشراف على بعضها، وهذا ما يفسر مثلا عدم توفر بعض هذه المعالم على "رخامات" للتعريف بها.
أرسل تعليقك