لندن - سليم كرم
بدءًا من الطاولة حيث تصب المرأة الشاي في الجرة، وطابور الثعابين في الشارع على مقربة من باب المنزل الأمامي، مرورًا بالطلاب ورجال الأعمال والنساء اللواتي ترتدين من تصاميم "برادا" وأحد كبار السن، وسيدة منحنية تمسك بكيس ورقي وتمضغ الدونات، فأنت مرحبًا بك في مقهى "بيشكي" حيث الدونات التي تعود إلى العهد السوفييتي والشاي المعسول، وبالتأكيد الخدمة دون ابتسامة منذ عام 1953.
كيف نجا المكان كما يعتقد البعض؟ يقع مقهي "بيشكي" في شارع "بولشايا كونيوشينايا"، وهو أحد أكثر الأماكن المألوفة في مدينة "سان بطرسبرغ" حيث إنه موطن "ديور" و"برادا" و"لويس فويتون" وتقريبًا "دي إل تي" في مكان مجاور. وبمجرد أن امتلأ المتجر الأول في الدولة بمصممي العلامات في رد المدينة على سؤال هارفي نيكولز، فـ"أسعار ميلان" تلمح إلى العقوبات الدولية التي فرضت منذ النزاع بين كل من روسيا وأوكرانيا.
لقد جئت إلى سان بطرسبرغ وينتابني الفضول لأرى ماذا يفكر به الروس أنفسهم في ما يخص الثورة التي بدأت في هذه المدينة التي كانت عظيمة قبل قرن من الزمان في العام الماضي، هل يفكرون في هذا كله أم أنه أمر من الأفضل نسيانه؟
لدينا مرشدة تدعى إلينا، (ليس إلزاميًا أن تمتلك واحدًا ولكنه مفيد لأن هناك كثيرًا من المواقع سيئة للناطقين بالغة الإنجليزية)، وقد أحضرتنا إلينا الى هذا مقهى بيشكي لأخذ استراحة قصيرة، وذلك بعد مشاهدة معالم المدينة السياحية، وقد احمرت خجلًا لأن الشاي يفيض من المرأة التي تسكب الشاي بكآبة في أكواب "البوليسترين" الخاصة بنا عند الطاولة. وتخبرنا أن والدتها تعشق هذا المكان لأنه يذكرها بطفولتها، فبالنسبة الى كثير من المسنين، توضح لينا بأن أيام الاتحاد السوفييتي حيث يبدو الوقت بسيطًا إذا كان الاختيار والفرصة محدودين فعلى الأقل لا يقلق الناس كثيرًا بشأن النقود لأنهم كانوا يعرفون مكانتهم، وبالنسبة لأشخاص مثل والدة إلينا فهذه الدونات الدافئة التي جاءت لتوها من المقلاة هي أكثر بكثير من مجرد معجنات.
وعلى عكس والدة إلينا فالشباب الروس يرون أن الذكرى أمر غير مناسب إلى حد كبير فقط للتذكر بالحنين إلى الماضي الزائف إن وجد، ففي متحف السوفييت للألعاب الإلكترونية وماكينات القمار واستخدام "كوبيكا" السوفييت الحقيقية، كل هذا الشباب الروس الذين يبدو لهم سقوط حائط برلين تاريخًا قديمًا، حتى أن آباءهم كانوا صغارًا عندما دمر الفندق التاريخي الذي كان يعمل في عام 1987 (أعيد بنائه في وقت لاحق) الأمر الذي أدى أول تظاهرة حاشدة في عهد السوفييت دون عقاب.
كما أن تجربة السائح في سان بطرسبرغ كلها متعلقة بالقياصرة، حيث قصور بيتر وكاثرين العظماء وهي هندسة معمارية على الطراز الفرنسي وأحد روائع عصر النهضة وبيض "فابريجيه" والذهب والمجوهرات، وأقل الأماكن زيارة هو مقصورة خشبية تقع على نهر نيفا التي بنيت من أجل بيتر في ثلاثة أيام فقط في عام 1703، وعاش بيتر هناك نحو 6 سنوات في المستنقعات التي ينتشر فيها البعوض. وفي حين يترأس بناء المدينة من لا شيء وهي مدينة ساحلية والتي تسهل على روسيا المرور إلى أوروبا، ولم تحب زوجة القيصر المقصورة حيث كانت تعيش فيها. وتعد المقصورة واحدة من اكثر مواقع المدن تميزًا فهي تضم ثلاث غرف بشكل مذهل، ومع وجود عجز في الطوب قام بيتر والعاملين بطلاء الخشب الخارجي ليبدو مثل الطوب تمامًا، بالإضافة إلى صفوف عرضية بيضاء تم فصلها بخطوط من اللون الأحمر. وفي عام 1723 قام بتغطية المكان بالطوب الأحمر وأمر بالحفاظ عليه من أجل الأجيال المقبلة مع كثير من ممتلكاته بما فيها من كرسي قام هو بنحته بنفسه.
وفي مكان قريب وفي قلعة بيتر وبولس حيث توجد عظام آخر قيصر نيكولاس الثاني وزوجته أليسكاندرا وأبنائهم الثلاثة الذين أعيد دفنهم رسميًا في عام 1998 في جنازة حضرتها عائلة رومانوف على نطاق واسع. وتبدو مرشدتنا إلينا بمظهر رسمي عندما تشير إلى المقابر التي غطيت يوميًا بالزهور. كما تصف أواخر أيامهم القاتمة في "ايكاترينبرغ" حيث قتلت العائلة على أيدي البلشفية رميًا بالرصاص، ولا أحد يذكر قلعة بطرس وبولس حيث سجن ليون تروتسكي في عام 1905 وكذلك شقيق لينين في عام 1887، وذلك بعدما حاول اغتيال الكسندر الثالث.
وفي قصر القياصرة السابق "وونتر بالاس" حيث كعكة الزفاف والذي تقع على ضفاف نهر نيفا والمعروف بأنه متحف الأرميتاج، قفزنا من غرفة الذهب و الكريستال إلى غيرها نلهث على المكان الرائع، وتكمن الروعة في مجوهرات القرن الـ18 بأنها سحيقة (المواءمة الأخيرة للبي بي سي للحرب والسلام حيث طرحت البي بي سي بعض الأفكار مما أدى إلى زيادة السياح البريطانيين). ففي غرفة واحدة حيث يكتظ الجميع ليحملقوا في روعة ساعة الطاووس الذهبية والمرصعة بالمجوهرات من تصميم جيمس كوكس، والتي تم اقتناؤها لكاثرين في عام 1781 ، وفي خضم كل هذه الأعمال التي لا تصدق من زخرفة فإن اثنين من ليوناردوز (أخوي مدونس) كانا بجودة مثل أي شيء في متحف اللوفر والعديد من "ريمبراندتس" حيث يقترب سائح تلو الآخر.
كما نطلب رؤية غرف القصر والتي كانت تستخدمها الحكومة المؤقتة والسياسيون الذين تولوا السلطة من شهر فبراير/شباط وحتى أكتوبر/تشرين الأول عام 1917 وذلك بعد تنازل نيكولا الثاني عن العرش، وتقودنا إلينا من غرفة الى أخرى مهجورة تضم لوحات فرنسية كلاسيكية الى أخرى للطعام، وهنا عقدت الحكومة المؤقتة آخر اجتماع لها، وعلى رف الموقد توقفت الساعة عند 2:10 صباحًا في اللحظة التي اقتحم فيها البلاشفة قصر "وونتر بالاس"، أما الطراد "أورورا" الذي رسى بالقرب من نهر نيفا وأطلق طلقة فارغة للإشارة لاقتحام القصر وهنا استسلمت الحكومة بسرعة.
وفي اليوم التالي من زيارة أورورا حيث قام خبير بشرح كيف تكشفت الأحداث الأخيرة ، وهناك صور للبحارة مع شارات حمراء رفعت عاليًأ، بالإضافة إلى القذائف البراقة واسلحة أخرى تنتمي للقرن الماضي، وقد تم إصلاح الطراد مؤخرًا ولكن مع مغادرتنا قالت المرشدة بأن هناك جدلًا حول ما إذا كان هناك عناء مع أية أدلة متعلقة بالثورة، والأمر الأكثر إثارة لأغلب الروس هو استغلال أورورا أثناء الحرب العالمية الثانية.
كما أن هذا يقترح بألا تمنع الحقبة السوفييتية من سان بطرسبرغ ولكن يمكنك أن تفوتها ببساطة. ويمكننا رؤية تلميحات قليلة هنا وهناك: اللوحة الغريبة في شارع جانبي والاحتفال بذكرى حيث عقد لينين اجتماعًا أو شيئًا آخر، لكن ما الذي سيحدث إن ذهبت لتبحث عن المزيد؟ أفعل هذا في المتحف السياسي الذي كان يوما ما منزل ماتيلدا كشيسينسكا وهي راقصة باليه الوجاهة مع الباليه الامبراطوري فهي موهوبة بلا شك وتدين بالكثير من الشهرة والثروة لشؤونها وثلاث دوقات من عائلة رومانوف بما فيهم نيكولاس الثاني المستقبلي الأمر الذي جعلها هدفًا للبلاشفة حيث فقدت قصرها من أجل لينين وأصدقاء في أبريل/نيسان عام 1917 في وقت قريب بعد عودة لينين إلى روسيا.
وتم وضع مكتب لينين في غرفة كانت بمثابة صحيفة الحزب الشيوعي، وفي كثير من الأحيان كان كل من لينين وبرافدا يلقيان خطابات من شرفة مجاورة تطل على "كرونفركسكي بروسبكت"، وهناك الكثير لاستيعاب مؤرخ حريص على كميات المواد المتعلقة بالقادة في وقت لاحق لا سيما ستالين. ولكن هذا واحد من من ضمن عدة متاحف التي لا تتوقع زوارًا من غير الروس او الذين لا يستطيعون القراءة أو التحدث باللغة.
والمتحف الروسي غير المزخرف هو بالمثل في قصر واسع لكن تفوح منه رائحة التقشف في الحقبة السوفييتية. فالواجهة الكبرى ليست اقل مهابة من تلك التي في المتحف البريطاني في لندن حيث البوابات العملاقة تحمل نسور الإمبراطورية ولكن للدخول هناك يزحف الزوار من خلال مدخل جانبي غامض سري، أما التصميم الداخلي فهو مختلف.
ويجذب هذا المتحف عددًا أقل بكثير من الزوار في الخارج وهو الأمر الذي يمثل عارًا لأن يضم كنوزًا فنية تصور روسيا قبل الثورة ومن خلال الحرب العالمية الثانية وما بعد انتهاء الحقبة السوفييتية، ويضم أعمال إيليا ريبين (1930-1844) وهو أستاذ التوثيق الاجتماعي لمح فيها للتحولات المقبلة، حيث توجد لوحة عملاقة في إحدى الغرف من مجلس الدولة والتي انتهت في عام 1930 وستتم الإطاحة بالنظام المنشأ عما قريب، وتقدم مراكب النقل في نهر "الفولغا" بوحشية الأقنان البائسة ويسحبون القارب نحو أعلى النهر، وعلاوة على ذلك فقد كان هناك تحول ملحوظ في عام 1917 وخلال عام 1920 وما بعد ذلك حيث تحول انتباه الرسامين من الطبقة الأرستقراطية إلى طبقة المزارعين والحافلات.
وبالخروج خارج المتحف الروسي وجدت أشعة الشمس في أوائل الخريف تتألق على مباني المدينة المطلية بألوان زاهية والممرات المائية المزدحمة، فمن السهل وللحظة أن تفكر في مدينة أوروبية أخرى بها قنوات مثل أمستردام والبندقية وسان بطرسبرغ من بين كل المدن الروسية ومعظم أوروبا، ومنذ نشأة المدينة فقد وجد لأكثر من مرة أنها كانت العاصمة الروسية وحتى بعد انتقال الحكومة إلى موسكو في عام 1918 ظلت أهمية المدينة كما هي ولم تتأثر مثل أي عاصمة سابقة أو حالية، فإنها تحمل كثيرًا من الجمال والكثير من القتامة أيضًا فغالبًا ما تتوافر الصفتان في نفس المكان.
خذ مبنى هيئة الأركان العامة وجناح متحف الأرميتاج الذي ينافس "تيت مودرن" في لندن في بهائه الذي يضم مجموعة خلابة من الأعمال الانطباعية وما بعد الانطباعية لكل من سيزان وفان غوخ ومونيت وبيكاسو وتولوز لوترك وماتيس، وقام رجل الأعمال سيرجي شتشوكين بجمع كثير من هذه الأعمال لملء منزله الروسي فقد احتفظ بـ 16 لوحة من أعمال تاهيتي في غرفة واحدة، لكن استولى عليها السوفييت جميعها حتى إن لينين وقع بنفسه على مرسوم لمصادرة الأعمال وهرب شتشوكين إلى فرنسا ولم يكن البقية محظوظين كما نعلم.
وبالنظر إلى فندق "أستوريا" الذي يقع بالقرب من كاتدرائية القديس اسحق والذي بني في عام 1910 وخلال الحرب العالمية الأولى ألقى الأرستقراطيون أحزاب مسرفة في قاعة الفندق إلى ان جاء راسبوتين لزيارة زوجته. ولكن بدأت الاشباكات بالأيدي بين محبي القيصر والبلاشفة في عام 1917 وشوهدت شلالات الدماء في الخارج. وفي غضون بضع سنوات اصبح الفندق "بولثولي" شعبيًا للثوار مع لينين مستفيدين من شرفات جناحه الملكي لإلقاء الخطب. وأعيد تسمية ليننغراد في عام 1924 وسقطت المدينة تحت الحصار في الحرب العالمية الثانية وخدم في أستوريا كمستشفى. ولكن هتلر كان قد خطط لإعلان فوزه هنا .
ويستمتع نزلاء الفندق بالإقامة الفاخرة طوال اليوم وقد لا تكون لديهم الخلفية الدرامية وراء هذا الفندق فهل هذا يهم؟ قد يضحك البعض عندما يرون الفن الهابط لكن يراه آخرون مصدر رعب لهم، وبالنسبة لي كان التشويق هو اكتشاف المدينة الجميلة ذات الأهمية الثقافية الكبيرة وانه على ان أعمل بجد من أجل دروسي في التاريخ الثوري، وهنا تظهر أسماء لعديد من زوار الفندق مثل إلتون جون ومارغريت تاتشر ولينين وراسبوتين.
وقدمت الرحلة من قبل روسيا ريجينت للعطلات (02031315562) وتكلفة الثلاث ليال في فندق Angleterre تبدأ من 630 جنيه إسترليني أو فندق Dostoevsky بأسعار تبدأ من 480 جنيهًا إسترلينيا على أساس غرفة ثنائية وتشمل الإفطار والطيران من بريطانيا لعطلات عام 2017 وسوف نقدم مرشدًا سياحي لمدة 7 أيام يلقي الضوء على الثورة في سان بطرسبرغ وموسكو.
أرسل تعليقك