غالبا عندما تسأل الآخرين عن هواياتهم، تراهم يعيدون على مسامعك تلك الهوايات المتكررة كالقراءة والسفر والسباحة وغيرها، عندها ستعرف أن محدثك لم يكتشف بعد شغفه الحقيقي . ولو سألت أحمد الجابري السؤال نفسه قبل سنوات ربما كانت إجاباته لن تتعدى تلك الردود النمطية، إلا أنك لو كررت السؤال بعد صيف 2011 لابد أنك ستحصل على إجابة قاطعة لا شك فيها "تسلق الجبال" .
رحلته مع أصدقائه إلى جبال ولاية نخل العمانية كانت المفصل التاريخي في مسيرة أحمد الجابري في البحث عن شغفه الحقيقي، هذا الشعور الخفي الذي ربط الجابري بالطبيعة الأم ظهر في صيف 2011 عندما عثر في نخل على ضالته، عرف أحمد فوراً أن ذلك هو بالتحديد ما أراده وبحث عنه كثيراً تسلق الجبال واكتشاف الوديان وسبر أغوار الطبيعة البكر واكتشاف أسرارها الدفينة . يقول الجابري: "تتميز عُمان عن غيرها من الدول بطبيعتها الفريدة التي تجمع السهل بالجبل والوادي والبحر، هذه المقومات مجتمعة تؤهلها لتكون في مصافي الوجهات الأكثر إثارة لعشاق المغامرة حول العالم لو جرى تسويقها بالطريقة الصحيحة" .
الرحلة الأخيرة لأحمد كانت في ولاية قريات حيث دخل مع مجموعة من أصدقائه الذين يجمعهم نفس العشق إلى "كهف النوافذ الثلاثة" في هضبة سلماه بولاية قريات والخروج من الجانب الآخر للوادي من المكان الذي يسمى كهف الطهري، استغرقت هذه الرحلة 22 ساعة متواصلة نزلت خلالها المجموعة مسافة 270 متراً بشكل عمودي تحت الأرض، ومن ثم قطعت مسافة 6 كيلومترات أفقيا تحت الأرض وصولاً إلى المخرج، يقول: "هنا بالتحديد تكمن فرادة هذه الهواية، فليس من السهل أن تخترق باطن الأرض لمئات الأمتار وتمشي لمسافات طويلة وأنت تعلم أن فوقك ملايين الأطنان من الصخور، لتخرج من الجانب الآخر بشعور يوازي الولادة الأولى ولكن هذه المرة من رحم الطبيعة الأم" .
عن مخاطر هذه الهواية يقول الجابري: "ربما هي الهواية الأكثر خطورة على الإطلاق، وهذا بالتحديد ما يكسبها فرادتها وتميزها، خلال السنوات الثلاث الأخيرة تمكنت من صقل مهاراتي وخبراتي في المجال بشكل أكبر، فالتسلق المستمر والرحلات المتعددة التي قمت بها منحاني خبرة أكبر في مواجهة أي ظرف قد نتعرض إليه والاحتياط جيدا والحذر، هذا من جانب، ولكن من جانب آخر أكثر أهمية بالنسبة لي، أنني تمكنت من نسج رابط خاص مع الطبيعة، اليوم استمتع بذلك من منظور مختلف لم يعتده الكثيرون، فأن تكون أنت ومعداتك وجهاً لوجه مع الطبيعة بجبالها وتضاريسها أمراً أكثر من رائع ومع مرور الوقت ستشعر بأنك أكثر قدرة على فهمها والتواصل معها بشكل يختلف عن الآخرين" .
وفي رده على شعوره بالخوف أو الرهبة أحياناً يؤكد قائلاً: "الشعور بالخوف أمر لا بد منه، بل هو جزء من المغامرة أيضاً، بل ربما الجزء الأفضل فيها، فالشعور بارتفاع الأدرينالين في جسدك لا يوازيه شعور آخر، عادة نتخذ كل إجراءات السلامة المعتادة لمثل هذه الرحلات قبل البدء فيها، هذه الإجراءات تشمل المعدات المختلفة مثل الحبال وخوذة الرأس والأحذية المناسبة، إلى جانب القيام بدراسة طبيعة المكان بشكل جيد قبل الرحلة والتنبه ومتابعة حالة الطقس . بهذه الخطوات يكون المتسلق قد أدى الأمور الأساسية التي تجنبه إلى قدر بعيد المخاطرة ولكنها لا تلغيها تماماً وهنا تكمن المغامرة" .
تحتل الأحجار المتساقطة بحسب الجابري المركز الأول في قائمة المخاطر التي تواجه متسلقي الجبال، ومن الأخطاء الشائعة أيضا عدم تقييم مستوى الرحلة بالشكل الصحيح، بمعنى مستوى الصعوبة والوقت الذي ستستغرقه الرحلة وكمية المياه والطعام الكافية لها .
يضيف: "من المعروف لممارسي الرياضات الخطرة ومحبي المغامرات ومنها رياضة تسلق الجبال أن من المهم جدا أن يبقى الذهن متقداً والبديهة حاضرة، لأن بعض المواقف التي يوضع فيها المغامر تتطلب منه اتخاذ قرار سريع وحكيم في الوقت نفسه، وأحيانا يترتب على هذا القرار الحياة أو الموت أو النجاح أو الفشل، حيث يجب على المتسلق أن يتخذ أحياناً قرارا بالعودة وعدم إكمال المسير كما فعلت في صيف 2013 عندما كنت أحاول بلوغ قمة جبل أرارات في تركيا على ارتفاع 5130 متراً، وكانت الخطة بالصعود والنزول في 3 أيام، كان اليوم الأول موفقاً ووصلنا إلى منطقة التخييم على ارتفاع 3100 متر، قضينا الليلة هناك استعداداً لليوم التالي . في اليوم الثاني صعدنا إلى ارتفاع 3900 متر وجلسنا هناك لمدة ساعتين تقريبا ثم نزلنا مرة أخرى للمخيم الأول، وهذه العملية مهمة جداً لمساعدة الجسم على التأقلم على الارتفاعات العالية، في مساء ذلك اليوم ساءت الأحوال الجوية وهبت رياح قوية وبدأت الثلوج بالتساقط وانخفضت درجات الحرارة إلى 5 تحت الصفر، في الساعة الثانية فجرا، نهضنا من نومنا واتجهنا في محاولة جديدة للصعود إلى القمة، وبعد الوصول إلى ارتفاع 4500 متر ساءت الأحوال الجوية أكثر، وبعد مناقشة الموضوع مع المرشد قررنا الرجوع إلى المخيم وكان قرارنا سليماً ولله الحمد حيث ساءت الأحوال الجوية لاحقا وأصبح الوضع بمنتهى الخطورة على قمة الجبل، هذا مثال عن القرارات التي يضطر المغامر لاتخاذها في الوقت المناسب على الرغم من صعوبتها الشديدة، فعندما تكون على بعد أمتار قليلة من الوصول إلى هدفك، يكون من الصعب جداً التراجع، وهنا تكمن الحكمة التي يجب أن تكون سلاح المغامر الذي لا غنى عنه" .
على الرغم من أن عمان بلد سياحي بامتياز، ويتمتع بالجغرافيا المناسبة لممارسة رياضة التسلق، إلا أننا لا نسمع عن متسلقين عمانيين إلا قليلاً، الحل هنا، كما يراه الجابري، يكمن في توفير الدعم المناسب للشباب العماني لخوض هذا المجال، فالشباب يمتلكون القدرات المناسبة والطاقات المؤهلة، وإنما ينقصهم الدعم المادي والمعنوي من الجهات المختصة بالرياضة والشباب في السلطنة، كما يجب التركيز على هذه الرياضة واستثمارها سياحياً، حيث يمكن تحويل عمان إلى بلد مستقطب لهواة التسلق من حول العالم، ذلك مهم للغاية وسهل بنفس الوقت، حيث يمكن تعزيز هذه الرياضة وزيادة انتشارها وجذب محبيها من خلال استقطاب المسابقات والأحداث العالمية المتعلقة برياضة التسلق كما الحال عندما استضافت السلطنة طواف عمان ومسابقات الإبحار الشراعي على سبيل المثال .
عن ذكرياته ورحلاته الباقية في الذاكرة إلى الأبد يقول الجابري: كثيرة هي مناطق التسلق العمودي في عمان، ولكن أقربها إلى قلبي جبل مشط في ولاية عبري، الذي يعتبر أعلى جدار عمودي طبيعي بالسلطنة ويصل ارتفاعه إلى 1200 متر، ولله الحمد توفقت بتسلق مسار واحد في جبل مشط في شتاء 2012 بمسافة عمودية وصلت إلى 840 متراً، كما أذكر رحلتي مع الأصدقاء لعبور وادي حلفين في أيار/ مايو 2012 أيضاً، هذه الرحلة استغرقت 30 ساعة متواصلة بلا توقف، نزلنا خلالها 13 شلالاً مستخدمين الحبال، لقد كانت رحلة لا تنسى بكل ما للكلمة من معنى .
جدول الجابري وتحضيراته قبل الانطلاق في المغامرة والتسلق، تشمل التحضيرات البدنية وممارسة التمارين الرياضية بشكل يومي، والتحضيرات الذهنية التي تكون بقراءة الكتب والمجلات وتصفح المواقع الإلكترونية التي تتحدث عن تفاصيل المكان المقصود وأسراره وتستعرض تجارب المتسلقين السابقة وخبراتهم ونصائحهم . بالنسبة للأطعمة يقول الجابري: "نعتمد على الطعام الخفيف المغذي والذي يمكن الاحتفاظ به لأيام دون أن يفسد مثل الخبز بأنواعه، بعض أنواع الجبن، الفواكه، المكسرات، ولا ننسى أبدا، الغذاء الأساسي الذي اعتمد عليه آباؤنا وأجدادنا من النخلة المباركة، وهو التمر بأنواعه، حيث يحتوي على مغذيات مفيدة جداً ويمكن تخزينه لوقت طويل من دون أن يفسد" .
أما عن أفضل الأوقات لممارسة هذه الرياضة في عمان فيقول: "بالنسبة لموسم التسلق فيفضل أن يكون خلال موسم الشتاء الذي يبدأ عادة من تشرين الثاني/ نوفمبر إلى شباط/ فبراير، حيث تكون الحرارة معتدلة نسبياً، أما فيما يخص استكشاف الوديان فهي عادة ما تكون في موسم الصيف تجنباً للخوض في مياه الوديان شديدة البرودة في فصل الشتاء التي قد تؤثر سلباً في قدرة المغامر على الاستمرار، بينما يمكن الاستفادة منها لتبريد حرارة الجسم في فصل الصيف" .
أرسل تعليقك