يرى الخبير المتخصص في شؤون التنمية خليل زهر أن التباينات في مواقف الدول الأوروبية تجاه قضية اللاجئين، تشير إلى وجود عوامل أخرى أكثر أهمية وأشدّ صلة من الاعتبارات الإنسانية التي لا نعتقد أنها تتباين كثيرًا بين شعوب المنطقة، كما أن شبح العنصرية أو التعصّب الديني الذي تمدّد ظلّه خلال الأعوام الأخيرة، يبقى منحصرًا ضمن أحزاب وحركات سياسية أقلية في المجتمعات الأوروبية، توظّف التمييز العنصري والديني في خلق ذرائع لفشل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية.
ويعتقد زهر أنه ليس من المفاجئ أن تأتي خطوط التصدّع في الموقف الأوروبي متوازية مع خطوط التباينات الاقتصادية لهذه الدول ومستوى تطورها، فاختلاف الموقف عمومًا بين دول شرق أوروبا وغربها، ناجم أساسًا عن أن اقتصادات الأولى لا زالت نامية، تتشابه في ما بينها بمعدلات للدخل أقل كثيراً منها في دول الاتحاد الغربية، كما أن معدلات البطالة فيها أعلى في شكل عام، فالمجر، على سبيل المثال، تعاني من بطالة يتجاوز معدلها 10 في المائة مقارنة بمعدل 5,3 في المائة في ألمانيا.
بينما الناتج المحلّي الإجمالي على مستوى الفرد يبلغ نحو 13,5 ألف دولار، وهو أقل من ثلث المعدل في ألمانيا، ودون نصف المعدل المتوسط للاتحاد الأوروبي البالغ 39,6 ألف دولار، لذا فإن استيعاب اللاجئين في هذه الدول يصبح أمرًا صعبًا، كما أن استيعابهم في الدول الغربية سيحدّ من فرص أبناء هذه الدول الذين يهاجرون إلى الدول الغربية بحثًا عن فرص عمل، أي أن الدول الشرقية في الاتحاد تريد أن تكون فرص العمل المتوافرة في الاتحاد لأبنائها وليس للآتين من خارج المنطقة.
ويفسر التباين في الأوضاع الاقتصادية بين دول أوروبا الغربية، إلى حدّ كبير التباين في مواقفها إزاء قضية اللاجئين، فمعدلات البطالة في أكثرية الدول المرحِّبة باللاجئين تقترب من المستويات الطبيعية، إذ إضافة إلى ألمانيا التي سبق ذكر نسبتها المئوية أعلاه، هناك النمسا (4,9) والنرويج (3,5) وغيرهما، بينما الدول غير المتحمّسة لاستقبال اللاجئين، تواجه معدلات بطالة مرتفعة مثل فرنسا (9,9) وبريطانيا (7,7) وإيطاليا (10,7).
يضاف إلى ذلك العوامل الاقتصادية المباشرة، فإن التمايز في مواقف دول الاتحاد يعكس الاختلاف بينهم في مقاربة تحديات التنمية المستدامة، إذ إن كل هذه الدول شرقية كانت أم غربية، تواجه تحديات ديمغرافية تتمثل بنمو منخفض أو سلبي في عدد سكانها، فخلال العقد الماضي (2004- 2014)، وعلى رغم الأعداد الكبيرة من المهاجرين الذين تم استيعابهم خلال الفترة، انخفض معدل النمو السكاني في الاتحاد من 0,6 إلى 0,4 في المائة، وارتفعت نسبة من تجاوزت أعمارهم 65 عامًا من 17,3 إلى 19,4 في المائة من إجمالي السكان، وحدها الدول التي فتحت أبوابها للهجرة تمكّنت من وقف الانخفاض في عدد سكانها، فألمانيا مثلاً، رفعت هذا النمو من معدل سالب (1,7) في المائة في 2012 إلى 0,3 عام 2014. بينما شهدت المجر انكماشًا خلال العقد الماضي تراوح معدله بين 0,2 و0,5 في المائة.
وبالتالي، فإن الدول المرحِّبة باللاجئين تنطلق، فضلاً عن اعتبارات إنسانية، من معطيات أساسية لضمان استمرار تطوّرها. لذا فإن اللاجئين من الدول العربية الذين يطرقون باب أوروبا، هم مثابة مورد ثمين ومجاني لها. فنصف هؤلاء من الأطفال ومعظمهم في فئة عمرية تتراوح بين 18 و34 عامًا، بينما 13 في المائة من اللاجئين السوريين هم من حملة الشهادات الجامعية وربعهم خريجو الثانوية، والأهم من ذلك كله، أن جميعهم يمتلكون الطموح الذي جعلهم يخاطرون بحياتهم من أجل بناء مستقبل أفضل لأبنائهم.
أما تشديد الإجراءات الذي شهدناه خلال الأيام الأخيرة، حتى في الدول المرحِّبة تقليديًا بالمهاجرين، فهو نتيجة عدم القدرة على إدارة تدفّق المهاجرين بأعدادهم الكبيرة، بخاصة بعد فشل دول الاتحاد في الاتفاق على حصص يتم على أساسها توزيعهم على الدول الأعضاء، بينما حاجة هذه الدول كلها إلى مهاجرين جدد لمواجهة حتمية الديمغرافيا، هي حاجة ضرورية، فالدول التي تتشبّث بأصولية إثنية أو دينية أو ثقافية وتقفل أبوابها في وجه المهاجرين، تخاطر في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية. فـ "النمور" الاقتصادية، سواء في أوروبا، كألمانيا، أو في أميركا الشمالية كالولايات المتحدة وكندا،على سبيل المثال، تجاوزت هذه الاعتبارات ووضعتها جانبًا إلى حدّ كبير لمصلحة الدولة الحاضنة للتنوع، وهذا ما يساهم في تميز أدائها ويجعل منها ومن مثيلاتها حول العالم نموذجاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وطالب الخبير الاقتصادي ورئيس معهد البحوث الاقتصادية الحكومة النمساوية كارل آيجينجر، بالعمل على دمج 70 ألف لاجئ في الاقتصاد النمساوي من خلال تبني إستراتيجية وطنية في أقرب وقت.
وأكد آيجينجر في كلمته أمام المنتدى الأوروبي السنوي المنعقد في مدينة ألباخ النمساوية في وقت سابق، على ضرورة إدماج اللاجئين بسرعة في سوق العمل، داعيًا المدرسين المتقاعدين مبكرًا إلى تعليم أطفال اللاجئين، مضيفًا أن المهاجرين يمثلون فرصة كبيرة لأوروبا لأنها تتعامل مع مجتمع عجوز.
وتبنى مكتب العمل الحكومي مشاريع لمساعدة اللاجئين في دخول سوق العمل، وأطلقت في فيينا الأسبوع الماضي خدمة توظيف ألف شخص، وكان وزير الخارجية والاندماج النمساوي سابستيان كورتس، طالب بالتدريب المهني للمؤهلين باعتباره خطوة هامة لتحقيق الاندماج والتعايش في المجتمع.
وحسب أرقام وزارة الداخلية من المتوقع أن يتجاوز عدد طالبي اللجوء 70 ألف شخص بنهاية العام الجاري، مقارنة بالعام الماضي حيث كان عدد طالبي اللجوء 28 ألف فقط.
ورأت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في افتتاحيتها اليومية، بأنه يجب النظر للاجئين القادمين إلى أوروبا بوصفهم مصدر طفرة اقتصادية، لا عبئًا على الاقتصاد الأوروبي.
وتلفت الصحيفة إلى ما وصفه عدد من الزعماء الأوروبيين بأن اللاجئين الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الوصول إلى القارة يشكلون عبئًا على سكانها، ولكن هناك ما يدعو للاعتقاد بأن أولئك المهاجرين سوف يساهمون بنمو الاقتصاد في أوروبا بشكل يفوق ما سيحصلون عليه من مساعدات.
وتقول نيويورك تايمز، إن عددًا من الدراسات وجدت أن مهاجرين عززوا نموًا اقتصاديًا عبر زيادة أعداد القوة العاملة ومعدلات الاستهلاك، وعوضًا عن تحميل الدول المضيفة كلفة مساعدات (غير مجزية، وبالكاد تكفي لسد رمقهم)، يدفع عادة المهاجرون الضرائب، وبحيث تفوق قيمتها المساعدات المقدمة لهم. كما لن يؤدي تدفق مهاجرين لتقليل فرص العمل للسكان المستقرين، لأن الاقتصاديات لا توفر عدداً نهائياً للوظائف، ومن جهة أخرى يجلب المهاجرون معهم خبراتهم، وينشئ بعضهم أعمالاً تجارية توفر فرص عمل لآخرين. كما يشغل الأقل خبرة وظائف من الصعب ملؤها، مثل رعاية الأطفال، مما يعطي الفرصة للأمهات للخروج إلى العمل.
وتشير الصحيفة إلى ورقة عمل نشرها في العام الماضي أربعة اقتصاديين، وكشفت عن كون الهجرة أفادت السكان المحليين في 19 دولة من الدول الصناعية العشرين الذين شملتهم الدراسة، كما وجدت دراسة أخرى أن تدفق لاجئين إلى الدنمرك في تسعينيات القرن الماضي، قاد العمال الأصليين للانتقال إلى وظائف أرفع وأكثر فائدة، والابتعاد عن أعمال كانت في معظمها يدوية. وكانت النتيجة هي جني العمال المحليين أجوراً أعلى.
ولكن، كما تلفت الصحيفة، طرح بعض المسؤولين في أوروبا، وبخاصة في بريطانيا، اعتراضًا آخر على الهجرة، والتي وصفوها بعبارة "هجرة المزايا السياحية"، وهي الفكرة القائمة على أن المهاجرين يأتون خصيصاً من أجل الاستفادة من مزايا سخية تقدمها بعض الحكومات الأوروبية، ولكن، لا تتوفر كثير من الأدلة والبراهين على صحة ذلك الرأي، ففي بريطانيا، مثلاً، وكما ورد في التحليل الذي أعده اقتصاديون، يدفع المهاجرون من باقي الدول الأوروبية ضرائب تفوق في حجمها المساعدات التي يتلقونها من الحكومة.
وكشفت دراسة أخرى أن خفض نسبة الهجرة إلى بريطانيا بمعدل 50٪، كما اقترح رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، سوف يقلل إجمالي الناتج المحلي في بريطانيا، ويجبر الحكومة على رفع معدلات الضرائب للمحافظة على توازن ميزانيتها. وفي عام 2010، قال كاميرون إنه سيعمل على خفض الهجرة الصافية إلى بلده "من مئات الآلاف إلى عشرات الآلاف".
ووفقا للمفوضية الأوروبية، تواجه أوروبا تحديات خطيرة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فبحلول عام 2025 سيصل خمس الأوروبيين إلى سن 65 عامًا، ما يضع ضغطًا كبيرًا على الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية في ظل النقص الكبير الذي سيسببه ذلك بعديد اليد العاملة.
وهنا يمكن لدمج المهاجرين الشباب أن يعطي دفعة ديموغرافية تحتاجها أوروبا وبشدة على عكس الأردن و تركيا أو لبنان، فأوروبا لديها من الموارد ما يمكنها من دمج المهاجرين كما جاء على لسان "بيير موسكوفيتشي" المفوض الأوروبي للشئون الاقتصادية و المالية، أوروبا لا يجب أن تنظر إلى أزمة المهاجرين الحالية من حيث التكلفة الآنية، إنما من حيث الفرص المستقبلية التي تخلقها.
ويستكمل بيير حديثه فيقول "هؤلاء يُعدوا من الموارد البشرية"، وقال أيضًا أن بلادهم في حاجة إلى الهجرة، فلا يجب أن يُنظر إلى الاقتصاد بطريقة سلبية كما يفعل الشعبويون"
ووفقاً لصفحة "فاينانشيال تايمز" فإن وزير المال الألماني فولفغانغ شويبله، يأخذ وجهة النظر الآتية "التكاليف قصيرة الأمد قابلة للإدارة، في حين أن الفوائد على المدى الطويل يمكن أن تكون كبيرة، المهاجرون عمومًا نعمة لأسواق العمل، وعلاوة على ذلك، فهم يدفعون للدولة أكثر مما يأخذون من خدمات، وفقًا لمواد بحثية مستقلة أجرتها منظمة التعاون والتنمية ومركز الأبحاث الاقتصادية الأوروبية".
في النهاية تقول كيث بروكتر من مجلة "فورتشين، إنه "في ظل الانتعاش الطفيف لاقتصاد منطقة اليورو وأزمة اللاجئين الراهنة، قد يكون من الحيوي لمستقبل الإتحاد الأوروبي استقبال اللاجئين، فالبيانات هي على الأقل داعمة، لكن تيار الذعر الذي يهيمن على العديد من دول الإتحاد الأوروبي قد لا تكون تلك البيانات جيدة بما فيه الكفاية".
وتضيف "صحيح أن أزمة اللاجئين قد تشكل مشكلة في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها يمكن أن تكون نعمة إذا تم التعاطي معها وفقًا لآلية علمية محددة".
أرسل تعليقك