لكل إنجاز حكايته الخاصة التي تختلف مع اختلاف صاحبه ونظرته لما يحيط به، سواء كان لوحة فنية، أو منحوتة، أو تصميمًا هندسيًا، أو مجموعة أزياء، أو حدثاً غيّر مجرى التاريخ، ومهما اختلف العمل في تركيبته والخيوط غير المرئية التي شكَّلته، والتي لا تراها سوى عين صاحبه، تبقى الشخصية الملهمة هي المعيار الوحيد الذي لا يتغير، وتبقى تلك العلاقة الغامضة والمثيرة للجدل بها هي الشرارة الحقيقية التي تستفز الابتكار، فمن هن الملهمات في التاريخ؟
غالباً ما تدخل الملهمة في حياة الفنان بطريقة عفوية وغير مخطط لها، وغالباً ما يرتبط وجودها بحالة من الشح الإبداعي والنضوب الذي قد يحول دون اكتمال الرؤية الفنية للعمل، لتجدد هذه الشخصية روح المبدع ورغبته في العطاء وترجمة مشاعره إلى نتاج جميل لا يتكرر، إلا أن الأمر قد يكون في بعض الأحيان مختلفاً تماماً.
وعلى الرغم مما يعرف عن المبدعين بميلهم المستمر للتنقل من علاقة رومانسية لأخرى، والحاجة المستمرة للبحث عن روح مُجدّدة، فإن الأمر كان مختلفاً تماماً مع الرسام الهولندي الشهير رامبرانت، الذي وقع في غرام ساسكيا القوية الجريئة وهو في بداية شهرته وعطائه، وتحولت في فترة وجيزة إلى زوجته وملهمته، ولتتحول تفاصيل حياتها اليومية، والتفاتاتها الأنيقة، إلى مجموعة من أهم أعمال الفنان الذي واجه نهاية حزينة لزواج لم يدم طويلاً.
رامبرانت وجد في زوجته الملهمة المثالية، ولم يفضل البحث بعيداً عن حدود منزله، فقد كانت تقطنه المُستفزة الأهم لإبداعاته التي لم يكررها التاريخ، فقد عرف ولايزال بأنه أحد أهم الرسامين على مدار العصور، ومن أشهر المهتمين بالطباعة والرسم التقني أيضاً، بينما كان لقاؤه بساسكيا في فترة انتشاره وبدء صعود اسمه في عالم الرسم وبدء بيع لوحاته.
ولدت ساسكيا فان يولينبيرغ في الثاني من أغسطس عام 1612 في لويردان، التي كانت آنذاك عاصمة إقليم فريسلاند شمال هولندا، لأسرة ثرية وناجحة، وهي الطفلة الثامنة والأخيرة لكل من سيوكي أوزينغا، والمحامي الشهير آنذاك رومبرتس فان يولينبيرغ، والذي كان أيضاً عمدة المدينة، وأحد مؤسسي جامعة فرانيكر في فريسلاند، وهي ثاني أقدم جامعة في تاريخ هولندا.
ثراء وسوء حظ
كان والد ساسكيا رجلاً ثرياً، وكانت تعيش حياة مترفة في قصر حقيقي، لايزال موجوداً حتى اليوم بطوابقه الأربع، ونوافذه الأنيقة، وبوابته الضخمة التي تبعد دقيقة واحدة عن كل المتاجر المفضلة لديها، حيث تقع متاجر قطع الدانتيل على الجهة الأخرى من أحد الجسور الخشبية الأنيقة التي تمتلئ بها المدينة، وسوق الألبان المزدحم، ومحطة وزن الأجبان بالقرب من الميناء. وعلى الرغم من ثراء والدها، وتمتعها بحياة مترفة وكريمة، فإنها عانت وفاة والدتها وهي في عمر السابعة عام 1619، لتخسر والدها بعد ذلك بخمسة أعوام وهي في عمر الثانية عشرة، لتقع مهمة تربيتها على شقيقتها الكبرى هيسكي وزوج شقيقتها جيرارد فان لو. لم تكن ساسكيا الشابة الجميلة والوريثة الثرية سهلة الانصياع أو التأثر، حيث كانت تتمتع بشخصية قوية، ومثقفة، ويصعب إرهابها، وعلى الرغم من أنها خسرت والديها فإن الأمر لم يجعلها تبحث عن الأمان في الزواج السريع، بل رفضت الكثير من طلبات الزواج، وانتظرت أن تجد الحب بدلاً من ذلك، حيث حرصت في فترة شبابها على الدراسة، وإحاطة نفسها بالفنانين والمثقفين.
لقاء فني
ساسكيا المهتمة بالفن، قامت بزيارة ابن عمها الرسام والوكيل الفني لعدد من الرسامين هيندريك فان يولينبيرغ، والشخص الذي عمل على إبراز وإشهار وبيع لوحات عدد من الفنانين منهم رامبرانت، الذي كان يقطن في منزل هيندريك آنذاك.
سافرت ساسكيا للقاء ابن عمها في أمستردام عام 1631، لتلتقي برامبرانت ذي الشعر الأشعث والعينين شديدتي السواد، والذي كان قد اشتهر آنذاك بين المهتمين في عالم الفن بعدد من اللوحات أهمها لوحة «درس التشريح للدكتور نيكولاس تولب» عام 1632، ولوحة «رامبرانت الشاب» عام 1626.
لم تكن لقاءات ساسكيا ورامبرانت منحصرة في العاصمة، حيث سافر الأخير أيضاً إلى مسقط رأسها، وكان ضيفاً على زوج ابنة أخت ساسكيا، الرسام ويبرانت دي غيست، الأمر الذي عزز من لقاءاتهما العفوية والمتكررة.
شجاعة
المتابع لحكاية رامبرانت وساسكيا، يجد أن تلك الشابة لم تكن لترضى بأن تتخلى عما تريد مهما كانت الظروف، أو التقاليد في مجتمع حازم في القرن السابع عشر، حيث كانت هي المدبر والمخطط الأقوى في زواجهما، هي الثرية القوية، وهو الرسام المتمرد والثائر، ابن صانع متواضع للقبعات. خطب كل من ساسكيا ورامبرانت في الخامس من يونيو عام 1633، ليتم الزواج بعد ذلك بعام، حيث طلب الشاب الإذن بالزواج في كنيسة القديسة آنابرويتش، وهي الأهم والأكبر في فريسلاند، كما أنه لإتمام الزواج قدم رسالة خطية بموافقة والدته على الزواج، وتم الزواج في الثاني من يوليو. وقوع ساسكيا في غرام رامبرانت، وواقعة عدم حضور أي فرد من عائلته للزفاف، والفرق الطبقي والمادي الكبير بين الزوجين، وإصرار العروس على تسريع إجراءات الزواج معاكسة جميع التقاليد، تدل على مدى قوة شخصيتها واستقلاليتها، لينتقل الزوجان عام 1635 إلى منزل في واحدة من أرقى مناطق أمستردام، وبإطلالة جميلة على نهر أمستيل، الأمر الذي أثار قلق عائلة ساسكيا، خوفاً من إنفاقها لميراثها بشكل متهور
قد يهمك ايضا:
"قصور الثقافة" المصرية تستعد للمشاركة في "أسبوع الجامعات الأفريقية"
الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية تصدر كتابًا جديدًا عن المطرب فريد الأطرش
أرسل تعليقك