صدرت مذكرات الجادرجي عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، وجاء الكتاب مليئًا بمعلومات وفوائد تاريخية ومنها فوائد لا يستغنى عنها في كتابة التاريخ الحديث، عن حياة الجادرجي، علمًا أن عبد الرزاق" ولد عام 1933 في أسرة بغدادية عريقة يكفي أن يكون والده كامل الجادرجي الشخصية السياسية وزعيم الحركة السياسية الديمقراطية في العراق لسنوات طويلة، ودرس الابتدائية في بغداد في مدرسة النجاح، وأكمل دراسته المتوسطة في المدرسة الغربية في باب المعظم وفي مرحلة الثالث المتوسط ولج عالم السياسة من أوسع أبوابه، ليحصل على شهادة الثانوية في مصر القاهرة، ويعود إلى بغداد بعد ثورة تموز، ويكمل دراسته في كلية الحقوق التي تخرج منها عام 1962."
وانتمى الجادرجي الابن إلى الحزب الشيوعي العراقي عام 1955 ، وقد يُفاجأ الكثير، فهو ابن زعيم الحركة الديمقراطية العراقية، وينحدر من عائلة أرستقراطية، لكن من يعرف نصير الجادرجي جيدًا سيتيقن أن انضمامه للحزب الشيوعي أمر طبيعي فهو الرجل الذي تمرد على واقعه برمته، وبين التناقل عبر المعتقلات، انصرف الجادرجي أخيرًا إلى مهنته وشأنه الخاص، حتى وفاة كامل الجادرجي"والده" عام 1970، للجادرجي فراسة في رؤاه السياسية، كانت واحدة منها تغير النظام عام 2003.
وبدأت الحكاية عند وليدٍ لم يُختر له اسم لمدة ستة أشهر، وقبل أن يعي صراعات الحياة غادرت أسرته العراق تحت ضغط الإنكليز إلى الهند ثم إلى مصر وبعدها إلى الإستانه، ليعودوا إلى العراق بعد انفراج الوضع السياسي، ليُصبح حينها كامل الجادرجي أهم الشخصيات السياسية التي شهدها تاريخ العراق الحديث، وكان ممثل مجلس السلم والتضامن ونقيب الصيادلة الأسبق أحمد علي إبراهيم يتحدث عمّا قرأه في مذكرات نصير الجادرجي، إلا أنه في الواقع كان يرسم لنا صورة لفيلم من أفلام السيرة، ويقول إبراهيم " لقد حدثني الجادرجي عن مذكراته في لقاء كان بيننا في بيت مهدي الحافظ، ذاكرًا "أنها في طريقها للنشر" ولأني مهتم بالشخصيات السياسية والشأن السياسي العراقي عبر التأريخ، كنت قد ترقبت صدورها باهتمام كبير، وما إن تسلمتها حتى استمتعت بأسلوب غير تقليدي في كتابة المذكرات" وحاول الجادرجي "الابن" أن يتخلص من كاريزما الأب في حيواته، لهذا اتبع سياسة التفرد في شبابه، فاتجه إلى اليسارية، مُتبنيًا طريقًا قائمًا على أساس العدالة الاجتماعية، ويؤكد إبراهيم " أن من يقرأ المذكرات سيجد نفسه أمام جيل متفرد بالوطنية التي لم يمسسها زيف السياسة."
وتشاطرا همّ الوطن، ولم يحملا من الذاكرة سوى قضيته، التي ألجأتهم أحيانًا للسكون طويلًا خلف القضبان، وأحيان أخرى الهرب من مكان إلى آخر مُتخفين ومستترين تحت مخاوفهم الشجاعة، هذا ما جمع الكاتبة والصحافية والمناضلة سافرة جميل حافظ بنصير الجادرجي حيث قالت حافظ " إن انتفاضة بغداد هي من جمعتها بالجادرجي آنذاك، ومعرفتها بزوجته الراحلة سمح لها باللجوء والاختباء في منزلها بعد أن حاولت القوات العسكرية التابعة للسلطة اعتقالها."
أما عن المذكرات وأسلوب تدوينها فتؤكد حافظ التي تحمل نَفْسًا ثقافيًا وأدبيًا أن"مذكرات الجادرجي رائعة ليس فقط بذكرياته بل بأسلوبه في الكتابة، الذي بات يؤكد لي من خلاله أنه أديب لامحال، على الرغم من أن المذكرات غنية، إلا أنها تركت الكثير من التساؤلات التي لم يتطرق لها الجادرجي، لتتساءل عنها حافظ مُطالبة بوضع إجابات لها قائلة " لم يبين لنا الجادرجي ما هي الخلافات التي كانت سائدة في الحزب الديمقراطي، كما لم يذكر الجادرجي أسباب نشوب الحرب الطائفية بعد 2003، هل كان هذا مبرمجًا أم ماذا؟"
لأن هذا الرجل ينحدر من أسرة أسست للحركة الوطنية والديمقراطية العراقية، فلابد أن الحديث عنه سيقودنا إلى الحديث عن تلك الفترات والحركات، يقول السياسي معاذ عبد الرحيم "إن الحديث عن الجادرجي لابد أن يقودنا للحديث عن الحركة الوطنية والحزب الوطني الديمقراطي، فبعد رجوعي من المنفى تعرفت إلى الجادرجي وزرته في مكتبه في المنصور لأستطلع رأيه حول ما وصل إليه العراق على يد سياسيي الصدفة وكنت أستلهم آراءه وأوصلها إلى إخواني المشاركين في العمل السياسي" الحديث عن الجادرجي هو حديث عن كل مناضل قدم خدمات للحركة الوطنية في هذه البلاد.
وعدّ الحديث عن الجادرجي فرصة يتوجب عليه أن يتلقفها، ليرد له جزءًا من الدَّين، فسهل الجادرجي مهمة مقابلته لشخصيات وطنية عراقية مهمة، حين كان طالب ماجستير، أمثال حسين جميل، محمد حديد، عبد الفتاح إبراهيم، عبد القادر إسماعيل وزكي خيري، وآخرين، هذه المُقدمة جاء بها عميد كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد عامر حسن الفياض، مُنتقلًا في حديثه إلى الكتاب، ويجد الفياض أنّ لكل كتاب تصنيفًا خاصًا، فبعض الكتب تقع ضمن مُصنف السياسة، أو الاجتماع، أوالأدب، وأخرى تقع ضمن الفكر أو الاقتصاد، ليُطلق تساؤلاته بشأن ما يُمكن أن يُصنف إليه كتاب الجادرجي؟ ليضع الفياض تصنيفًا جديدًا للكتب وهو "الكتب الوطنية العراقية"
ويذكر الفياض " أن السيرة أثارت ثلاث نقاط أو تساؤلات وهي الطفولة المتناقضة، والشباب المتمرد، والطريق المليء بالمتاعب، من خلال قراءة الكتاب سنجد الكثير من التناقضات التي ذكرها الكتاب أولها إن صاحب المذكرات بقي بلا اسم حتى عمر الـ6 أشهر، وإنه كان يمشي حافيًا وهذا تمرد على ترف العائلة، وإنه وبحكم محبته وشعبيته في علاقته واختيار الاصدقاء في المنطقة تجاوز الطبقية والتفاوت والطائفية، فكان التمرد في مرحلة شبابه متجسدًا، بأن يكون الجادرجي واحدًا من الهدّامين الذين هدموا جدار كلية الملكة عالية للبنات في 1952، ليتسلح بالحجارة ويرمي الشرطة من هذا الجدار، كما تمرد عندما علّق يافطة التعريف بالحزب الدستوري حزب نوري السعيد ويافطة مقر الحزب علقها على عمارة مشبوهة أخلاقيا لإهانة الحزب في حينها." مؤكدًا " أن لتمرد الجادرجي شيئًا من الشعور بالمسؤولية وهذا نلتمسه حين يذكر لنا أن المتظاهرين وصلوا إلى مقر مجلس الإعمار في شارع غازي يقول منعت زملائي من العبث في مجلس الإعمار لأن فيه أناسًا وطنيين وتراجعوا عن العبث في هذا المجلس، وكذلك في هروبه من البيت عبر السطح الى بيت الجيران حين جاءت الشرطة للسؤال عنه وواجهته في الباب فطلب منهم الانتظار وهرب، إضافة الى دروب المتاعب التي تجسدت برحلاته الطويلة في المعتقلات."
ولم ينظر إلى المذكرات على أنها مادة أدبية، أو على أنها مدونات يكتبها أحدهم عن حيواته، وذلك لأنه استاذ في مجال التأريخ فكانت نظرته مُغايرة تمامًا الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري يقول " كوني أستاذ تاريخ سأتكلم بأسلوب مؤرخ، في الواقع استمتعت بمذكرات الجادرجي التي كُتبت بأسلوب جيد جدا، إضافة إلى قدرته على ربط الأحداث، وهنا سأُهنئ صاحب المذكرات، ولم يدخل الدوري في تفاصيل المذكرات، لكنه قرر أن يوجه تساؤلاته ليعرف الكثير من الحقائق عن صاحبها حيث يقول الدوري" إن الجادرجي ولد وفي فمه ملعقة السياسة وهذا واضح من خلال المذكرات لكثرة الاعتقالات، أيضًا كانت اعتقالاته أشبه بنزهة لما فيها من أحداث غريبة سيلتمسها القارئ للمذكرات."، وعادة نجد أن من يدوّن مذكراته يميل بشكل ما إلى نفسه ولكن الدوري لم يجد في مذكرات الجادرجي شيء من النقد لبعض الظواهر والسياسات في حياته، مؤكدًا بذلك " حين أقارن بين أوراق كامل الجادرجي وبين مذكرات نصير الجادرجي أجد أن مذكرات نصير كانت رائعة وواضحة في الكثير من الاحيان."
وتنتهي الجلسة التي مُلئت بالكثير من الأحاديث الغنية عن رجل مُخضرم بتأريخه الطويل الذي عاشه منذ عشرينات القرن الماضي، وحتى الآن، ليختتم جلسته بحديثه قائلًا "من الصعب البدء بالكلام، ذلك إنني سأكون عاجزًا عن تقديم شكري لكل من أسهم في هذا الحفل، ولم يُدوّن نصير الجادرجي شيئًا مُسبقًا عن مذكراته، فكانت وليدة ذاكرته، وما تبقى بها، ليقول " إن المذكرات استندت إلى الذاكرة وهذا كان صعبًا جدًا بالنسبة لي، فلم أدوّن حرفًا واحدًا قبل كتابة هذه المذكرات، وفي حال وجود هفوات في بعض التواريخ والاسماء التمسوا لي العذر." مؤكدًا "لقد ذكرت حوادث مهمة جدًا، وأخرى لم أذكرها، فأنا لست مؤرخًا ، لقد أعطيت حرية لنفسي أن أكتب ولكن بأمانه."
وأشار الجادرجي إلى بعض الاحداث والمعلومات التي دونها في كتابه، من بينها معلومة انقلاب بكر صدقي، الذي أكد أنه كان بعلم من الملك غازي شخصيًا وتشجيعه، كذلك تحدث عن شخصه، وهندامه، لينقل من خلال ذاته مظاهر الحياة في ذلك الوقت، وقد يكون الحديث الذي أنهى به الجادرجي الجلسة مُثيرًا للشجون حيث قال " إن الصبي المتمرد لايزال حيًّا بي، فعائلتي بأكملها تسكن في كندا الآن، وأنا أستطيع الحصول على الجنسية الكندية، إلا أنني العام الماضي قدمت طلبًا رسميًا بإسقاط إقامتي، وحين عرف بذلك أخي رفعة الجادرجي أخبرني بأن هذا المتمرد لا يزال يسكنني." وترك الجادرجي وصيةً صغيرة للحاضرين قائلًا " جيلنا فشل، إلا أن البركة بالجيل الجديد، أنتم الجيل المقبل أكملوا المسيرة فلم يبقَ في بغداد شيء يُذكّرني حتى بدجلة التي أعشقها، بقي المتنبي ،لذا حافظوا عليه.
أرسل تعليقك