دبي - صوت الامارات
ماذا يفعل رجل السياسة بعد أن يترك منصبه؟ يكتب مذكراته. هذا ما فعله أوباما مؤخرًا وحظي بنجاح غير مسبوق، حتمًا بعشرات الملايين من الدولارات. وهذا ما فعله فاليري جيسكار ديستان بعد أن غادر قصر الإليزيه مُكرَهًا عام 1981. ما زلت أذكر كيف ودع الفرنسيين بكل حرقة ومرارة بعد هزيمته على يد فرنسوا ميتران الذي حل محله في قصر الإليزيه. لقد رأيناه يودعهم على شاشات التلفزيون وهو يكاد يبكي. ظلت حسرة في قلبه أنه خسر المعركة الانتخابية واضطر لمغادرة القصر تنفيذًا لإرادة الشعب الديمقراطية. وهذا ما لا يستطيع حتى الآن أن يقبل به شخص مثل دونالد ترمب. ما أصعب ترك الرئاسة بعد أن كنت قد ذقت حلاوة طعمها لبضع سنوات! ما أصعب أن تتركها لشخص آخر غيرك! أسهل من ذلك تجرع السم الزعاف!
لقد استمتعت كثيرًا بقراءة كتاب “السلطة والحياة” لمؤلفه فاليري جيسكار ديستان. وهو في الواقع كتاب مذكرات، بل الحلقة الأخيرة في هذه المذكرات التي وصلت إلى ثلاثة أجزاء. وفيها يصب جام غضبه على جاك شيراك الذي غدر به وأتاح لميتران الانتصار. لم يغفر له جيسكار ذلك حتى آخر لحظة من حياته. نقول ذلك ونحن نعلم أن الحياة السياسية الفرنسية كانت خاضعة طيلة عشرات السنين لتنافس هذين الزعيمين الكبيرين: جيسكار - شيراك. وقد عانى اليمين الفرنسي كثيرًا من هذه الظاهرة الانقسامية. ويرى الرئيس جيسكار ديستان أنه لولا خيانة شيراك لما وصل فرنسوا ميتران إلى سدة الحكم عام 1981. فانقسام اليمين الفرنسي على نفسه هو الذي أتاح وصول شخص اشتراكي إلى قصر الإليزيه. وهنا يدخل المؤلف في التفاصيل ويقول ما معناه: عندما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1980 كانت كل الدلائل واستطلاعات الرأي العام تشير إلى أني سأنتصر فيها على المرشح الاشتراكي أيًا يكن. وبالتالي فقد ابتدأت سنة الترشيح بشكل جيد بالنسبة لي ولم يكن عندي أي قلق على المستقبل. كنت أعتقد جازمًا أن الفرنسيين سيجددون لي مرة أخرى لسبع سنوات إضافية. ولكن بعد أن أعلن جاك شيراك ترشيحه وأخذ يهاجمني بعنف أصبح موقعي حرجًا أو ضعيفًا أمام فرنسوا ميتران. فالحزب الديغولي الذي يقوده شيراك يمثل أكبر حزب في جهة اليمين، وإذا كان لا يستطيع أن يوصل زعيمه، أي شيراك، إلى سدة الرئاسة آنذاك فإنه يستطيع أن يفشّل المرشح اليميني الآخر ذا الحظ في النجاح: أي أنا بالذات. وعلى هذا النحو ابتدأ شيراك مؤامراته علي لإسقاطي وإخراجي من قصر الإليزيه بعد أن أمضيت فيه سبع سنوات وحققت إصلاحات ونتائج لا يستهان بها بخاصة في ظل رئيس وزرائي آنذاك ريمون بار. ومعلوم أنه من أشهر علماء الاقتصاد في فرنسا، بل إن الصحافة لقبته بأفضل اقتصادي في البلاد.
ولكن كل ذلك لم يشفع لي لدى الرأي العام لأن شيراك استخدم كافة الوسائل لإضعافي وتشويه سمعتي بما فيها مساعدة عدوّه ميتران عليّ. وقد أصبح شيراك يخطط على النحو التالي: ما دام جيسكار ديستان في الحكم فإني لن أصل أنا أبدا إلى قصر الإليزيه. وبالتالي فأفضل طريقة للوصول هي أن أعمل على تنجيح ميتران الذي لن يدوم في الحكم طويلا لأن الاشتراكيين فاشلون من الناحية الاقتصادية ولم يدوموا في الحكم سابقا إلا لفترات قصيرة. وعندما يفشل ميتران ويسقط يصبح طريق الإليزيه مفتوحا على مصراعيه أمامي. على هذا النحو كان يفكر شيراك عامي 1979 - 1980، وقد استطاع أن يقنع حزبه بالمخطط الجهنمي ونجح في إسقاطي. ولكن المشكلة هي أن ميتران كان ثعلبًا ماكرًا فلم يسقط بعد سنة أو سنتين من حكمه كما كان يتوقع شيراك وإنما ظل في قصر الإليزيه لمدة أربعة عشر عامًا متواصلة: أي أكثر من ديغول نفسه! وهذا ما لم يكن يتوقعه جاك شيراك المستعجل جدًا للوصول إلى قمة الحكم والسلطة.
ويتهم جيسكار ديستان جاك شيراك بأنه شخص مغامر لا يفكر إلا بالسلطة والنفوذ والتحكم بمصير فرنسا. إنه يريد السلطة من أجل السلطة وليس من أجل خدمة فرنسا. والدليل على ذلك هو أنه استطاع لاحقًا أن يصل إلى قصر الإليزيه ويبقى فيه اثني عشر عامًا متواصلة قبل أن يخرج مؤخرًا وحصيلة حكمه مخيبة للآمال. فالزعيم الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يريد السلطة من أجل أن ينقذ البلاد أو أن يفعل شيئًا ما أو أن يحقق لشعبه إنجازات إيجابية وإضافية. وهذه هي حالة الجنرال ديغول مثلًا. فقد رفض السلطة بل ركلها برجله أكثر من مرة عندما شعر بأنه لا يستطيع أن يخدم المصلحة العامة العليا للبلاد. وهنا تكمن عظمة رجل السياسة. ولكن عندما شعر ديغول أن البلاد أصبحت بحاجة ماسة إليه لإنقاذها، فإنه سعى إلى السلطة وامتلكها وأنقذ فرنسا مرتين: مرة أثناء الحرب العالمية الثانية، ومرة ثانية إبان حرب الجزائر. وعندما شعر بأن مهمته قد انتهت غادر قصر الإليزيه معززًا مكرمًا رغم أنه كان يستطيع أن يظل فيه لفترة إضافية أخرى. ولكنه لم يتمسك بالكرسي على عكس ميتران وشيراك. ولكن هل يمكن أن نقارن الأقزام بالعمالقة؟
مهما يكن من أمر فإن جيسكار ديستان يعتبر شيراك سبب انحطاط فرنسا في السنوات الأخيرة. ثم يعيب عليه شيئًا آخر ألا وهو نزعته الزبائنية الهادفة إلى التحكم بكل المناصب العليا في البلاد وإعطائها لجماعته المقربة منه. فالسلطة في نظره هي غنيمة. وعندما يصل إليها ينبغي أن تصبح مسخّرة ليس لخدمة الشعب الفرنسي (هذا كلام للاستهلاك المحلي) وإنما لخدمة عصابته وحزبه وجماعته فقط. وهذا أخطر شيء يمكن أن يصيب البلاد الديمقراطية، فالرئيس الحقيقي ليس هو ذلك الذي يضع جماعته في كل مناصب الدولة للاستفادة الشخصية منها وإنما هو ذلك الذي يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وعلى هذا النحو تنجح البلاد اقتصاديًا وسياسيًا وتنمويًا وكل شيء. أما شيراك فعنده مفهوم آخر للسلطة مختلف تمامًا: إنه مفهوم انتهازي بالخالص. ولذلك تأخرت فرنسا في عهده ولم تحقق شيئًا. والآن أصبح ملاحقًا من قبل المحاكم في عدة قضايا تخص الرشى واستغلال المنصب لأهداف شخصية والثراء غير المشروع.
ثم يحمل جيسكار ديستان على غريمه السابق حملة شعواء عندما يتهمه بالخيانة والغدر فعندما اقترب موعد الانتخابات الحاسمة عام 1981 اكتشف جيسكار أن شيراك أعطى أوامر سرية لجماعته ليس لكي يمتنعوا عن التصويت، وإنما لكي يصوتوا للمرشح الاشتراكي ميتران! بالطبع فإنه صرح ظاهريًا بأنه سيصوت للرئيس جيسكار ديستان، ولكنه سرًا أعطى أوامر معاكسة كما قلنا، وعندما سمع جيسكار بالنبأ جن جنونه ولم يكد يصدق في البداية. ولكي يقطع الشك باليقين فإنه راح يتصل شخصيًا بمقر الحزب الديغولي الشيراكي في باريس. ولكيلا يعرفوا صوته أو يكتشفوه فإنه وضع منديلًا على سماعة التلفون لتغيير الصوت لأن صوت جيسكار متميز جدًا ومعروف في كل أنحاء فرنسا. وقد ردت عليه في البداية سكرتيرة مناوبة في الحزب قائلة: ماذا تريد؟ قال لها: أنا عضو في الحزب من منطقة الشانزليزيه وأريد أن أعرف لمن ينبغي أن أصوت. فقالت له: ألم تسمع بالأوامر؟ قال: لا أبدًا. قالت له: ليس لجيسكار! ثم طلبت منه أن ينتظر قليلًا لكي يتكلم معه أحد المسؤولين الكبار في الحزب، وبالفعل فقد أمسك هذا الأخير بسماعة التلفون وقال له بغضب: يا أخي أما قلنا لكم: صوتوا لميتران؟ نريد إسقاط هذا الرجل جيسكار ديستان! فقال له جيسكار: شكرًا على هذه المعلومة وأغلق الخط.
لم يكشف الرئيس الفرنسي السابق الغطاء عن هذا الخبر إلا بعد مرور ربع قرن أو أكثر على مغادرته لقصر الإليزيه وقد كشفها في الوقت الذي كان فيه شيراك على أبواب الرحيل لتبيان مدى سوء نيته وميله إلى الخيانة والغدر. ولكن جيسكار نسي الحقيقة التالية وهي أنه لولا خيانة شيراك لجاك شابان ديلماس المرشح الديغولي عام 1974 لما وصل هو شخصيًا إلى سدة الرئاسة الفرنسية. وبالتالي فشيراك مستعد لفعل أي شيء من أجل تحقيق مآربه الشخصية والوصول إلى السلطة بأي شكل. ولكن لماذا كل هذا الركض المحموم وراء السلطة؟ فقط من أجل الأبهة والمظاهر والاستمتاع بها إلى أقصى حد ممكن. هذا هو ملخص رأي جيسكار بالسلطة والحياة والغريم الذي أقض مضجعه: جاك شيراك!
أخيرًا أعترف بأن أول شخصية رأيتها على التلفزيون عندما وصلت إلى فرنسا خريف عام 1976 كانت شخصية جيسكار ديستان، وذلك لأنه كان رئيسًا للبلاد آنذاك. وقد فوجئت بمظهره النبيل المتعالي. كان يجسد الأرستقراطية الفرنسية في أعلى ذراها تألقًا. وفوجئت أكثر بمدى ذكائه وألمعيته وقدرته على جذب المشاهدين بطريقة معينة في الكلام. كان يسيطر على أفكاره بشكل منهجي وبيداغوجي مدهش. وبالتالي فقد ترك رحيله مؤخرًا أثرًا في نفسي لأنه اختلط بأولى ذكرياتي على الأرض الفرنسية. دائمًا البدايات بهيجة. ولكن النهايات؟ الله يستر. الآتي أعظم. أين ذهبت البراءات الأولى؟ كل شيء تبخر. ولكن لماذا أحشر نفسي في كل شاردة وواردة وأنا أتحدث عن رحيل شخصية عالمية؟ ما علاقتي بالموضوع؟ ما هذه النرجسية التي لا تحتمل ولا تطاق؟
قـــــــــــــــــد يهمـــــــــــــــــــــــك ايضــــــــــــــــــــــــــــا
أرسل تعليقك