قبل أن تكمل الساعة دورتها التاسعة في الصباح؛ وبهمة شاب عشريني لا شيخ سيكمل الـ80 بعد أسبوع، يصل "حضرة الناظر" شحدة عقيلان عيد إلى حيزه الأثير، المكتبة، ليجالس "رفقة ورقية" يصادقها منذ عمر مبكر، قبل أن يجبر هو وعائلته على ترك الفالوجة بقضاء غزة.. ولا يغادر المكان إلا نحو الثالثة عصراً، في برنامج يومي ثابت.
فيما يشبه لوحة شرف؛ وضعت صورة القارئ "الكبير" في مدخل المكتبة العامة بالمركز الثقافي في أم القيوين، تعلوها كلمات: "المتعامل المتميز لعام 2015"، فهو وجه مألوف وعلامة للمكان، يحفظ ما فيه ومن فيه، وإن غاب يوماً فثمة من يسأل عنه ويطمأن عليه من العاملين أو من المترددين: لماذا لم يحضر الأستاذ عقيلان اليوم إلى المكتبة؟
"لا ينجو كتاب" من بين يدي القارئ النهم، على حد تعبيره، فعلى طاولته في المركز الثقافي تتجاور أغلفة من الماضي والحاضر: "نهاية الأرب" و"آخر نساء لنجة" و"الأطلس الجغرافي الحديث"، إذ ينوّع في مطالعاته، ولا يحصر ذاته في مجال بعينه.. يقرأ ما تقع عليه عينه، ولا يستريح يوماً إلا إن "داوم" في المكتبة ساعات طويلة، ملخصاً حكايته مع القراءة بأنها بالنسبة إليه "حياة".
عِشرة عمر؛ صارت علاقة شحدة عقيلان بالمكان الهادئ، فهو من رواد المكتبة العامة منذ أن كان المركز الثقافي بجوار متحف أم القيوين، وحينما انتقل المركز إلى موقع جديد، ارتحل معه القارئ النهم الذي لا يغيّر إطلالته اليومية على المكتبة وناسها.
ويستذكر ابن الفالوجة الفلسطينية في قضاء غزة (من مواليد 27 سبتمبر 1936) الكتب الأولى التي طالعها في مطلع الأربعينات، وهو في مرحلة مبكرة من العمر، معدداً أسماء أعلام الثقافة العربية الذين استهوته كتاباتهم وإبداعاتهم، وعلى رأسهم عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس محمود العقاد، بالإضافة إلى دواوين أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وسواهما.
وحلت النكبة في 1948، وهُجّر الفتى مع عائلته لاجئين إلى قطاع غزة، ولكنه لم يترك شغفه بالقراءة، وظل مرتبطاً بالكتاب، وملتصقاً به ـ حسب تعبيره ـ مضيفاً: "منذ الصغر لا أستريح يوماً إلا إن قرأت لساعات، حتى هذا العمر، لا أترك عادتي، ملتصق بالكتاب حتى الآن، حياتي بالقراءة. من أيام فلسطين منذ أوائل الأربعينات، قرأت في موضوعات وتخصصات كثيرة، باللغتين العربية والإنجليزية، كتباً ومجلات، في كل المجالات، الدينية والأدبية والعلمية، ومازلت مستمراً، كما أدوام على الصحف، ولا أمل من القراءة أبداً، وأغيّر وأنوع من دون حدود، وآتي من الساعة التاسعة صباحاً وأنصرف في الثالثة عصراً، أو قبل ذلك.. ومعظم وقتي للمطالعة، وقليل منه مع الصحافة والتلفزيون". بعد مغادرة مكتبة المركز الثقافي، لا تنقطع علاقة "الجد" بالأوراق، إذ يقول "عندي مكتبة بسيطة في البيت، وإن وجدت وقتاً بعد العودة أسحب كتاباً وأطالعه.. وتتميز مكتبتي بالتنوع أيضاً، إذ أحرص على الثقافة العامة والعلوم، ولا أحصر نفسي في زاوية ما، بل أقرأ ما يقابلني: ديني علمي أدبي تاريخي، إذ لا أترك القراءة في البيت والمكتبة".
بذاكرة فتية؛ يسرد عقيلان تواريخ كثيرة في سيرته الذاتية، وكأنها كتاب محفوظ بالنسبة إليه؛ ففي مطلع الخمسينات، تحديداً 1953، غادر فلسطين إلى الكويت، ليعمل معلماً، ومكث فيها حتى 1958، وفي العام نفسه أتى مع البعثة التعليمية الكويتية إلى أم القيوين، ليشارك في تأسيس التعليم النظامي بالإمارة، وفي 1961 عاد إلى الكويت وعمل فيها حتى 1981، إذ رجع إلى أم القيوين ثانية، ليبدأ مسيرته في الإمارة مديراً لمدرسة الأمير الثانوية، ثم موجهاً تربوياً، وبعدها مدرساً في كليات التقنية العليا لثلاث سنوات.
ويستعيد عقيلان مشاهد من أزمنة مختلفة عاصرها في المكان، والمدرسة المتواضعة الأولى التي كانت تطلّ على البحر، وأهالي الإمارات الذين كانوا حريصين على تعليم أبنائهم رغم ضعف الإمكانات حينها: "كانت أم القيوين في المرة الأولى التي عشت فيها بها (1958 ـ 1961) منطقة ريفية بسيطة، لا سيارات ولا كهرباء ولا طرق معبدة، إلا في ما ندر، والمدرسة الأولى كانت تضم 160 طالباً.. وكانت قريبة من البحر، والكتب والمعلمون من الكويت؛ لكن في الثمانينات تغيرت الحال، إذ تقدمت البلاد بعد الاتحاد، خصوصاً في ما يتعلق بالمواصلات والبنية التحتية والترتيب والنظام، بشكل مختلف تماماً عن الأمر في الخمسينات".
ويؤكد: "كنت أزرع في الطلبة حب القراءة، وأشهد أن أهل الإمارات كانوا يحبون أن يتعلم أبناؤهم، وكانوا يحترمون المعلمين".
ونتيجة الشغف بالمعرفة والقراءة، وبعد التقاعد (في عام 1996) تحوّل المعلم ومدير المدرسة والموجّه شحدة عقيلان إلى دارس وباحث في الـ60 من العمر، وظل هكذا حتى حصل على شهادة الدكتوراه من إحدى الجامعات في العاصمة السودانية الخرطوم.
ويصف صاحب تلك المسيرة القراءة بأنها "دواء ناجع وعلاج لهموم العصر المادي، والملل والأرق اللذين يصيبان الناس، والقراءة تملأ النفس والقلب والوجدان والفكر بما يفيد وينقذ ويحرك الأفراد والمجتمع كله، كما أنها السبيل لمستوى حضاري رائع".
ويوصي الجيل الجديد باستثمار مبادرة 2016 عام القراءة، للانطلاق إلى هذا العالم الثري "فالقراءة مشبعة للفكر والوجدان أيضاً، لأن الإنسان ليس بطناً فقط؛ إذ يحتاج العقل إلى زاد، وهذا الزاد في القراءة والمطالعة، وفي مكتباتنا آلاف الكنوز، كما الحال هنا في المركز الثقافي الذي أواظب على الحضور إليه، ويعرفني الموظفون والموظفات بالمركز، حتى إنهم يسألون عني إن غبت يوماً".
أرسل تعليقك