دبي – صوت الإمارات
لم يتخلص الفنان الإماراتي الشاب حسن يوسف، تماماً من سطوة حلول إخراجية طرقها في أول عمل يخرجه لمهرجان دبي لمسرح الشباب، وهو "المسرحية"، قبل سنوات، وفاز حينها بجائزة أفضل عمل متكامل، وظل وفياً لتلك التفاصيل التي ظهرت في عرضه "لير.. ملك النحاتين"، الاثنين، على خشبة الدورة العاشرة للمهرجان ذاته، التي تستضيفها ندوة الثقافة والعلوم بدبي.
لكن يوسف اليوم، الذي يعد أحد أكثر الفنانين تتويجاً بجوائز المهرجان، ما بين تمثيل وإخراج، وإكسسوارات، بدا أكثر نضجاً، وقدرة على جرّ المتلقي لتشعبات الحكاية الدرامية، وصولاً إلى العقدة، والحل، وفق رؤيته الخاصة، فالعمل، المتكئ على رائعة شكسبير "الملك لير"، وبإعداد حفل بالاختزال والحذف والإضافة، جاء ببصمة حداثية جعلت الكثير من مفاصل العمل تفاجئ المشاهد.
ويجدد العمل، الذي أنتجه "المسرح الحديث" بالشارقة، ثنائية جمعت في الدورة الثانية للمهرجان، بين إبراهيم أستادي وحسن يوسف، عبر مسرحية "عنمبر"، لكن بمواقع مختلفة هذه المرة، أصبح فيها يوسف مخرجاً، وليس ممثلاً مع أستادي في العمل نفسه، الذي تبادلا بالأساس فيه دوريهما.
وربما هناك أكثر من عمل عربي خصوصاً، سعى لاستلهام "الملك لير" كما كتبها شكسبير، قبل أكثر من أربعة قرون، أشهرها على الإطلاق من إخراج المصري أحمد عبدالحليم، وبطولة يحيى الفخراني، الذي أبدع في دور الملك، قبل أن يعود قبل نحو عامين ويستدعي الشخصية ذاتها في عمل تلفزيوني مستمد منه هو "دهشة"، في حين أن "ملك النحاتين" برؤية حسن يوسف، تبدو في كثير من مفاصلها، متمردة على النص الأصلي، على نحو يقرّبها من اللفظ الذي اختاره حسن نفسه لعمله بأنه "مستوحى" من "الملك لير"، وبإعداد شخصي، وليس "مقتبساً".
فكرة أن العمل يدور في فلك نص لأهم كاتب مسرحي على الإطلاق، كانت كفيلة بإرباك أسرة العمل كاملة، غير أن هذا لم يحدث، ومنذ بداية إزاحة الستار، وصل انطباع للمتلقي بأنه أمام عمل لا يسير بإخلاص للنص القادم عبر القرون، وهنا تفصيلات كثيرة ستُفعّل عنصر المفاجأة.
وعبر ديكور مرتب بعناية، قوامه بعض الطاولات الخشبية الصغيرة، وعدد من التماثيل، جاء فضاء المسرح رحباً، لحركة "الملك لير" الذي يؤدي دوره الفنان إبراهيم استادي، ومساعده "بهلول"، في حين حكمت رؤية يوسف الفنية باستبعاد شخصيات أخرى حضرت في ما كتبه شكسبير، وجاءت التماثيل لتستعيض عن بعضها، خصوصاً بنات الملك الثلاث، محور الأزمة.
"في كل الأحوال لا يمكن أن تشغل بالك بعمل شكسبير، لأن هذا سيشوش على العرض الحي"، قناعة تصل للتلقي، حينما يجد مساعد الملك يستعين بعبارات بعضها يعود للثقافة الإسلامية، في حين يأخذ إتقان استادي المشاهد لتفاصيل دور نحات قابع في معبده، يرى نفسه ملكاً بفضل فن لا يشفع له في أن يبقى مطارداً من الجهات الإدارية من أجل إخلائه، لأنه "آيل للسقوط".
وما بين نحات يقضي ليله ونهاره مخموراً فاقداً للوعي، تارة بفعل "الخمر" وأخرى مدفوعاً بتضخم "الأنا"، وبين تابع بدا في عمل حسن يوسف كأنه ضمير أكثر من كونه تابعاً أو مساعداً، بدليل العديد من الإشارات منها رده على سيده برفضه الخروج من المكان وكان تعليله: "لن أخرج.. فوجودي مرتبط بوجودك".
فكرة الخلاص، وليس فقط فضح آفة النفاق والتملق والخديعة، من الأفكار التي أضافها يوسف، أيضاً، فـ"بهلول" المخلص لسيده، باحثاً عن الخلاص من أزمته، ومعاناته مع نحات مخمور، متقلب المزاج، يمتلك مفتاح خروجه من هذا المكان الذي يهدد حياته، وفكرة خلاص "لير" نفسه، من عاصفة عاتية، تحمل نصر أعدائه، يبشره بها تابعه، الذي يظل رغم ذلك مخلصاً له.
وجود نصين، أحدهما سابق وآخر لاحق، شوش إلى حد ما على مخرج "ملك النحاتين"، ووجدنا أكثر من محور رئيس للعقدة، منها صراع بين القديم الذي يمثله الملك، والجديد المعاصر الذي يمثله أعداؤه المفترضون، القادمون مع الرياح العاتية، وصراع بين "لير" نفسه، وتماثيله، التي هي معادل موضوعي لبناته، وهو صراع فرض نفسه على الأحداث، وابتكر يوسف في توصيفه من خلال تنوع أداء الممثل سالم طاهر، الذي أدى دور "بهلول" لكنه هنا قدم حلاً رائعاً ليوسف من خلال تلونه بسخرية في دور كل شخصية من شخصيات بنات "لير" الثلاث، بمن فيهم "كردليا"، الوحيدة التي رفضت أن تنافقه بمديح زائف، فقرر أن يحرمها من ميراث مملكته، التي جاءت ضمن اللاوعي، هنا، على عكس، تقديمها في إطار "الوعي" بنص شكسبير.
حالة "اللاوعي" استمرت مسيطرة على أداء "لير" برؤية حسن يوسف، حتى المشهد الأخير، الذي انتقل فيه إلى "الوعي" قبل سقوطه في الموقع ذاته الذي أسقط فيه تابعه، في ما قبل، لتتلون جبهته بآثار صناعة التماثيل، وكأن "لير" و"بهلول" لدى حسن يوسف لم يعودا السيد وتابعه، بقدر ما هما وجهان للشخص ذاته، وتفصل بينهما المساحة نفسها التي تكشفت في المشهد الأخير، وهي الهوة الفاصلة بين "الوعي" و"اللاوعي".
ومثلت الموسيقى عنصراً ثرياً أسهم في إبقاء المتلقي في حال من التلاحم الوجداني مع الحدث، لكن في المقابل جاءت الإضاءة ثابتة، وتقليدية، لكن الأداء الجيد للفنان الشاب إبراهيم استادي، بصفة خاصة، كان بمثابة غطاء "فني" أسهم في عدم إبراز مزيد من علامات الاستفهام، حول انسجام الفكرة تماماً في ذهن المخرج، وانعكاس ذلك على نصه.
أرسل تعليقك