واشنطن - يوسف مكي
كانت الولايات المتحدة الأميركية تعرف أن الطريقة المرعبة التي يستخدمها محققوها أثناء استجواب السجناء المشتبه بتورطهم في قضايا ارهابية ستكون مؤلمة وصادمة. ولكن لم يتوقع احد انها ستسبب أذى نفسيًا طويل الأمد. ولكنهم بعد خمسة عشر عاماً، اصبح من الواضح أنهم كانوا مخطئين.
في سلوفاكيا، يصف حسين مرفدي معاناته من الصداع الدائم واضطراب النوم بسبب ذكرياته مع الكلاب داخل السجن. وفي كازاخستان، يعاني لطفي بن علي من الكوابيس. وفي ليبيا، يتسبب راديو إحدى السيارات في غضب ماجد مختار ساسي المغربي حيث أن الموسيقى الصاخبة تذكره بإحدى طرق وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي اي ايه" في التعذيب.
وهناك عدد من الرجال الذين يقولون بأنهم لم يعودوا طبيعيين كما كانوا، حيث قال المغربي، يونس شكري إنه يعيش في حالة من الاكتئاب، وأنه يخشى الخروج من منزله لأنه يرى وجوهًا في الزحام تذكره بحراس سجن "غوانتانامو".
وكشفت بعض الوثائق الحكومية الأميركية، بالاضافة إلى مقابلات مع سجناء سابقين وافراد من الجيش وأطباء مدنيين، أن عشرات المساجين الذين تم اعتقالهم في سجون "السي اي ايه" السرية وسجن غوانتانامو في كوبا يعانون من مشاكل عقلية، مشيرين إلى أن هذه هى الاعراض نفسها التي عانى منها ايضاً أسرى الحرب الأميركيون الذين تمت معاملتهم بوحشية في وقت سابق من قبل أقسى الأنظمة في العالم.
واشارت الوثائق الى أن الذين تعرضوا للتعذيب هم ضحايا الأدلة الواهية التي تنصلت منها الولايات المتحدة في وقت لاحق، بينما كان آخرون هم عناصر في حركة "طالبان" أو تنظيم "القاعدة" ولم يشكلوا تهديداً يُذكر. وكان هناك ايضاً بعض الإرهابيين بمن فيهم اولئك المتهمون بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر 2001 وتفجير المدمرة الأميركية "كول" في عام 2000. وفي العديد من الحالات، أدى هذا التعذيب إلى تعقيدات في الحالة العقلية للمتهمين وهو ما عرقل عملية تقديمهم إلى العدالة.
وكان الأميركيون قد ناقشوا منذ فترة طويلة طرق الاستجواب بعد "أحداث11 سبتمبر"، حيث تساءلوا عما إذا كانت تلك الطرق ترقى إلى التعذيب أو تهدف فقط الى استخراج المعلومات الاستخبارية. وبينما يواصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما نقل المتهمين من غوانتانامو، وعد المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب باعادة اساليب استجواب باتت محظورة الآن مثل الإيهام بالغرق.
وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عن أن نصف الاشخاص على الأقل الذين خضعوا لتقنيات "الاستجواب المعزز" التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، والتي شملت حرمانهم من النوم وسكبهم بالماء المثلج وضربهم وحبسهم في صناديق تشبه التوابيت، قد عانوا من مشاكل نفسية. تم تشخيص اصابة بعض من المساجين باضطراب ما بعد الصدمة وجنون الهذيان والاكتئاب والذهان.
وقال نائب مستشار الأمن القومي في البيت الابيض، بن رودس: "بالطبع هذه الطرق كانت تتعارض تماماً مع قيمنا كأمريكيين وعواقبها تعد تحد كبير بالنسبة لنا كدولة وأفراد معنيين". ولم تقم حكومة الولايات المتحدة ابداً بدراسة الآثار النفسية طويلة الأمد لممارسات الاستجواب المروعة التي تم استخدامها.
ورداً على سؤال حول الضرر النفسي طويل المدى قالت متحدثة باسم وزارة الدفاع بأن "السجناء كانوا يعاملون معاملة إنسانية ويحصلون على رعاية ممتازة، بينما رفض المتحدث باسم السي اي ايه التعليق".
وكان عدد من الباحثين قد قالوا أنه "قد يكون من الصعب تحديد السبب والنتيجة مع المرض العقلي، حيث أن بعض السجناء الذين تم اعتقالهم بواسطة السي اي ايه والجيش كانوا يعانون من مشاكل نفسية كامنة قد تجعلهم أكثر عرضة لصعوبات طويلة الأجل، بينما أن البعض الآخر كان مرناً بشكل ملحوظ. ومع ذلك، قال الأطباء الاستشاريون ومسؤولون حكوميون سابقون أن هناك رابطًا ما بين الممارسات القاسية والمشاكل النفسية.
ولم يقم بعض الأطباء بسؤال سجناء غوانتانامو الذين لديهم مشاكل عقلية عما حدث خلال التحقيق، حيث انهم قد رأوا أدلة على الضرر النفسي على الفور. وقال نقيب البحرية المتقاعد الذي خدم كضابط في مستشفى غوانتنامو في السنوات الأولى للسجن، البرت شيمكوس: "كان طاقمي يتعامل مع عواقب الاستجوابات من دون معرفة ماذا جرى."
وبعد أن تم الإفراج عن المعتقلين من السجون الأميركية، لم يجد بعض منهم أي مساعدة على الاطلاق. ويعد رجل الأعمال التنزاني، محمد عبد الله صالح الأسد مثالاً على هؤلاء الذين تم خطفهم واستجوابهم وسجنهم، ثم أرسالهم مرة اخرى إلى بيوتهم بدون تفسير. عاد هؤلاء الاشخاص إلى أسرهم وهم يعانون من اثار الاستجوابات والعزلة والخجل من التهكم الجنسي والتعري القسري.
وكان الأسد، الذي توفي في شهر مايو/ايار الماضي، قد قضى أكثر من عام في سجن سري تابع للسي اي ايه. وقالت ارملة الأسد، زهرة محمد في بيان ارسلته الى اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب: "في بعض الأحيان كان يخبرني بالشعور المروع الذي يعاني منه. لقد تمت اهانته، وهذا الشعور لم يذهب بعيداً عنه ابداً".
وفي غرفة باردة كانت تُستخدم للاستجواب في غوانتانامو، قام الطبيب النفسي العسكري السابق، ستيفن زيناكيس بمقابلة الطفل المجند في تنظيم "القاعدة"، عمر خضر في ديسمبر/كانون الأول 2008. وكان خضر، وهو مواطن كندي، قد تمت اصابته واعتقاله في تبادل لاطلاق النار في أفغانستان وهو يبلغ 15 عاماً، حيث قال انه تم ارساله من قبل والده عضو التنظيم من أجل الترجمة للمقاتلين الأجانب. وقد واجه خضر تهم ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك القاء قنبلة قتلت مسعفاً في الجيش. في ذلك الوقت، كان خضر هو أصغر أسير في غوانتانامو.
وقال محامي خضر ان الجنود الاميركيين كانوا يمنعونه من النوم ويبصقون في وجهه ويهددونه بالاغتصاب. وخلال اجتماعه مع زيناكيس، بدأ خضر، 22 عاماً حالياً، في التعرق على الرغم من وجود مكيف هواء بارد في الغرفة. وعندما قام خضر بخلع قميصه من شدة شعوره بالحر، ادرك زيناكيس أنه يعاني من نوبات هلع.
وأوضح خضر انه تبول مرة أثناء الاستجواب وهذا ما ادى إلى تعذيب الجنود له، حيث قال: "هذه هي الغرفة التي قاموا فيها باستخدامي كممسحة بشرية". وكان زيناكيس قد شهد مثل هذه النوبات من قبل عندما كان طبيب نفسي شاب في المركز الطبي العسكري في ولاية كاليفورنيا، والذي كان في كثير من الأحيان المحطة الأولى لأسرى الحرب الأميركيين الذين غادروا فيتنام.
وكانت تلك الجلسة مع خضر هي بداية معرفة زياكيس بقضية معاملة المعتقلين، حيث بدأ بمراجعة السجلات الطبية الخاصة بـ50 سجينًا حاليًا وسابقًا بالاضافة إلى فحص 15 معتقلًا. وبعد أن عاد إلى ولاية فرجينيا، بحث زيناكيس عن اثار الممارسات السيئة في السجون ووجد وثائق علمية حول هذا الأمر. ولكن لم يتم النظر إلى الحقائق العلمية عندما بدأت الحكومة صياغة سياسات الاستجواب الجديدة بعد 11 سبتمبر.
وكان الأطباء العسكريين قد لاحظوا بعد نهاية حرب فيتنام أن أسرى الحرب السابقين يعانون من اضطرابات نفسية أكثر من الجنود الآخرين، وهي الملاحظة التي تم تسجيلها ايضاً بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية. ووجد الباحثون انه لا يمكن تفسير الاثار النفسية بالحبس فقط، ولكن التعذيب أو سوء المعاملة هى الأسباب التي يمكنها أن تسبب مشاكل نفسية طويلة الأمد للمعتقلين.
وبحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قامت إدارة المحاربين القدامى بربط هذه الممارسات مع فقدان الذاكرة والكوابيس المرعبة والصداع وعدم القدرة على التركيز. كما أشارت دراسات اخرى عن أعراض مشابهة بين الناجين من التعذيب في جنوب أفريقيا وتركيا وتشيلي. ساعدت هذه البحوث في تمهيد الطريق لكيفية تعامل الأطباء الأميركيين الآن مع المحاربين القدامى.
ولا يمكن لليبي محمد بن سعود تحديد التاريخ الذي بدأ فيه الأميركيون استخدام الماء المثلج لتعذيبه في سجن تابع للسي اي ايه في أفغانستان، حيث كان المكان مظلماً دوماً ولا يمكن تحديد الوقت فيه. فقد كان يتم تعذيب بن سعود بواسطة الايهام بالغرق وهو مجرد من ملابسه، وهذا ما كان يؤدي إلى احساسه بالاختناق والغرق.
وتم اعتقال بن سعود في عام 2003 بتهمة الفرار إلى باكستان والانضمام إلى حركة إسلامية مسلحة تهدف إلى إسقاط الرئيس الليبي في ذلك الوقت، معمر القذافي. ونفى بن سعود تهمة انضمامه إلى تنظيم القاعدة.
وفي عام 2004، قامت السي اي ايه بنقل بن سعود إلى ليبيا من أجل ان يتم سجنه هناك. ظل بن سعود مسجوناً في ليبيا حتى تم إسقاط حكومة القذافي بعد ذلك بسبع سنوات. وقال بن سعود، 48 عاماً، في عدد من المقابلات انه وغيره من المعتقلين الليبيين كانت تتم معاملتهم في سجون القذافي بشكل افضل من سجون السي اي ايه.
وعلى الرغم من أنه الآن رجل حر، يشعر بن شعود بالخوف دائماً من الغد كما أنه يعاني من أجل اتخاذ القرارات البسيطة. وتم اطلاق سراح الكثير من المعتقلين من دون توجيه اتهامات اليهم ولا اعلامهم باسباب احتجازهم، حيث اظهرت البيانات أن واحداً من كل أربعة سجناء كان ينبغي الا يتم أبداً القبض عليه. وخالد المصري، وهو مواطن ألماني، كان من أشهر هؤلاء السجناء.
وقامت السلطات المقدونية بالقبض علي المصري عندما كان في عطلة في ديسمبر/كانون الأول 2003، ثم سلمته إلى السي اي ايه. وقال المصري أن المسؤولين ضربوه وجردوه من ملابسه ونقلوه جواً الى احدى المواقع في أفغانستان. تم احتجاز المصري لعدة أشهر في زنزانة لا يوجد بها سرير. عانى المصري من كوابيس مرعبة وتقبض في صدره. واضاف المصري: "لقد عانيت من فقدان الذاكرة وعدم القدرة على حفظ والاكتئاب والعجز واللامبالاة وفقدان الاهتمام في المستقبل والتفكير البطيء والقلق".
ويدير أحمد الرشيدي اليوم مطعمين في طنجة المغربية ولديه زوجة وخمسة أطفال، وذلك بعد أن اصبح انساناً حراً منذ ما يقرب من عقد. وكان الجيش الأميركي قد ادعى بأن الرشيدي تدرب في احد معسكرات "القاعدة" في أوائل عام 2001، ولكن قالت منظمة "ريبريف" لحقوق الإنسان أن الرشيدي كان يعمل في ذلك الوقت طاهياً في لندن.
وقارن الرشيدي المعاملة التي تلقاها من قبل الأمريكيين بالشخص الذي تمت سرقته من قبل صديق موثوق به، حيث قال: "انه شئ مخيف للغاية عندما تتعرض للتعذيب من قبل اشخاص لا يؤمنون بالتعذيب، حينها تفقد الثقة في كل شيء". وكان يعمل غوانتانامو في سنواته الأولى بنظام المكافآت والعقوبات وذلك من أجل استغلال نقاط ضعف السجناء، وهذا ما ادى إلى آثار خطيرة مثلما كانت في حالة المعتقل المصري، طارق السواح.
وتم القبض على السواح الذي كان يُعتقد بإنه عنصر في حركة "طالبان" في عام 2001 وتم تسليمه إلى الولايات المتحدة، ووصل الى غوانتانامو في مايو/أيار 2002. وعلى الرغم من تأكيد شقيقه، جمال بأن اخاه لم يكن يعاني من مشاكل عقلية، بدأ السواح بالصراخ في الليل ومعاناته من الهلوسة.
وبعد انهياره نفسياً، وجد المحققون السواح يريد التحدث وطالبهم بأن يحضروا له طعاماً جيداً له، وبالفعل قاموا باحضار وجبات من مطاعم "ماكدونالدز" و "صب واي" في الوقت نفسه.
أصبح السواح بعدها مخبراً لهم، على الرغم من أن المعلومات كانت ليس لها أي قيمة تذكر. وقال السواح انه قام بتأليف قصص ليس لها اساس من الصحة، بما في ذلك كونه عضواً في تنظيم "القاعدة" وذلك من أجل الحماية وتلقي معاملة جيدة. عندما انتهت الاستجوابات تم وضع السواح في غرفة خاصة بالمتعاونين معهم، كما انهم استمروا في امداده بالمواد الغذائية.
ويعيش السواح، 58 عاماً، الآن في البوسنة ويشكو من الصداع المتكرر والمزاج المتقلب، كما انه يتوسل للأطباء من أجل اعطائه دواء مضادًا للهذيان. وعلى الرغم من فقدانه لبعض الوزن، يبقى الأكل له شىء قهري تعلمه في السجن. ومع وجود احد الصحفيين، تناول السواح على وجبة الافطار في رمضان شريحة لحم وبطاطس مقلية وطبق من التمور وعاء من حساء الدجاج وسبانخ وشرائح من الخبز وعاء آخر من الحساء وما يقرب من صفيحة جبن كامل. واوضح شقيقه جمال، الذي يعيش في نيويورك حالياً: "انه غير متزن ويحتاج إلى رعاية نفسية ومادية"
لا يلوم السواح الجنود الأميركيين بسبب تلك المعاملة التي تلقاها، حيث قال: "كانوا يخافون مني وخائفين على حياتهم. غوانتنامو كانت لكلا الجانبين مجرد مكان يوجد به مجموعة من الناس الخائفون بسبب معيشتهم هناك".
أرسل تعليقك