بين فرنسا والصين علاقة خاصة، وخلال عقود، سعت فرنسا لأن «تتفرد» في تعاطيها مع الصين الشعبية رغم أطلسيتها وعلاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ففرنسا كانت أول بلد غربي وأوروبي يقيم في عام 1964 علاقات دبلوماسية مع بكين في زمن الزعيم ومهندس الثورة الثقافية ماو تسي تونغ. وقامت هذه العلاقات إنفاذًا لرغبة الرئيس؛ الجنرال شارل ديغول. وكان خليفته في قصر الإليزيه جورج بومبيدو أول رئيس غربي يزور بكين في سبتمبر/ أيلول 1973.
وبعدها، أصبح بمثابة تقليد دبلوماسي أن «يحج» رئيس الجهورية الفرنسية إلى الصين مهما كان لونه السياسي، وهو ما فعله الرؤساء فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند. والثلاثاء، لم يشذ إيمانويل ماكرون عن سابقيه؛ فهو يقوم بزيارة دولة تستغرق ثلاثة أيام يمتزج فيها الرمزي بالتاريخي والدبلوماسي بالتجاري، وتحكمها رغبة جامحة بأن تصبح باريس «المحاور» الأول لبكين بينما تتخبط ألمانيا في مشاكلها الداخلية، وتغرق بريطانيا في تبعات «بريكست». أما الرئيس الأميركي، بمزاجه المتقلب، فإنه صعب المراس.
لم تكن صدفة أن يبدأ ماكرون زيارته للصين من مدينة كسشيان الواقعة غرب البلاد، التي كانت عاصمة الصين القديمة ومنطلق طريق الحرير. والأكثر من ذلك أن الرئيس الصيني يتحدر من منطقتها، ولذا فإن ماكرون أصاب عصفورين بحجر واحد: تكريم مضيفه تشي جينبينغ من جهة، وإبراز الاهتمام بمشروعه الضخم المسمى «طرق الحرير الجديدة» الذي سيمس 65 دولة ويتطلب استثمارات لا تقل عن تريليون دولار.
وما يريده ماكرون هو تأكيد رغبة بلاده على أن تكون جزءً من المشروع، وأنها لن تقف موقف المتفرج، خصوصًا أن تجارتها مع الصين تبين عن عجز فاضح لصالح بكين؛ إذ وصل في عام 2016 إلى 30 مليار يورو. لكن «مباركة» ماكرون ليست «شيكًا على بياض»، وبصراحته المعهودة وقدرته على الحديث المباشر، لم يتردد في التنبيه إلى أن «طرق الحرير» يجب ألا تكون «في اتجاه واحد»؛ بمعنى لصالح الصين أو لفرض هيمنتها التجارية والاقتصادية.
وفي كلمة مطولة ألقاها الإثنين، في مدينة شيان، أكد ماكرون أنه يريد أن «تكون فرنسا وأوروبا على موعد مع الفرص التي توفرها الصين» في إشارته إلى مشروع «طرق الحرير»، مضيفًا أن هذه الطرق «يفترض أن تكون تشاركية وليست في اتجاه واحد». ولمزيد من الإيضاح، أردف الرئيس الفرنسي قائلًا: «هذه الطرق لا يمكن أن تكون وسيلة لهيمنة جديدة تخضع الدول التي تمر بها».
يعكس كلام ماكرون ازدواجية النظرة الأوروبية إلى المشاريع الصينية. فإذا كان الرئيس الفرنسي يرحب بـ«طرق الحرير»، فإن الاتحاد الأوروبي التزم حتى اليوم موقفًا مشككًا وهو يتخوف من أن تكون الوسيلة المثلى لبكين لفرض نفوذها. لكن المشكلة بالنسبة إليه أنه غير قادر على الوقوف بوجهها. من هنا، موقف ماكرون الداعي إلى الاستفادة من الفرص المتوافرة، ولكن في الوقت عينه التزام جانب اليقظة خصوصًا في القارة الأفريقية التي هي الفضاء التقليدي للهيمنة الأوروبية.
حقيقة الأمر أن كثيرًا من الملفات تجمع باريس وبكين. لذا، استعان ماكرون ببلاغته المعهودة ليؤكد أن «مصائر فرنسا والصين متشابكة». وفي فورة غنائية ذهب إلى حد القول إن «المستقبل بحاجة لفرنسا وأوروبا والصين»، مضيفًا: «نحن ذاكرة العالم ويعود لنا أن نقرر أن نكون مستقبله». ورد الرئيس الصيني الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية أمينًا عامًا للحزب الشيوعي ورئيسًا للدولة لولاية جديدة، التحية بأحسن منها، حينما أكد لدى استقباله في بكين ضيفه الفرنسي أن «الصين وفرنسا بلدان كبيران ووراءهما تاريخ مجيد». وأضاف جينبينغ: «نتشارك الرغبة في أن نكون قائدين مسؤولين تاريخيًا، وأن نختار الاستمرار في تعزيز العلاقات بين بلدينا».
ليست قليلة الملفات التي تقارب بين باريس وبكين؛ وأولها مصير «اتفاقية باريس» الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2015 بعد قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب منها. وتعد المصادر الفرنسية أن تخلي بكين عنها، في حال حصوله، سيعني دفنها. لذا، فإن ماكرون دعا الشهر الماضي لقمة جديدة للمناخ عقدت في قصر «سيل سان كلو»، الواقع غرب العاصمة، لتوفير دفعة جديدة لها ولإشراك جميع اللاعبين في العمل على تنفيذ تعهداتها. وتعد الصين الملوث الأول في العالم؛ الأمر الذي حفز ماكرون على دعوة نظيره الصيني إلى «إعادة إطلاق معركة المناخ».
وفي الملفات السياسية - الدبلوماسية، يبرز بقوة ملف كوريا الشمالية وبرامجها النووية والباليستية. ويتوافق الطرفان على الحاجة لسلوك الدرب السياسي والابتعاد عن التهديدات باللجوء إلى القوة.
يذكر أن باريس وبكين صوتتا مؤخرًا لصالح فرض عقوبات اقتصادية جديدة على بيونغ يانع في مجلس الأمن الدولي، لحملها على وقف تجاربها والعودة إلى طاولة المفاوضات. لكن باريس تفتقر لورقة ضغط على الطرف الكوري، وورقتها الوحيدة التي تحمل قيمة معينة هي عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، والضغوط السياسية التي يمكن أن تمارسها فرديًا ومع أوروبا على الطرف الأميركي لجعله «أكثر عقلانية». وكما بخصوص كوريا الشمالية، فإن باريس وبكين مقتنعتان بضرورة الدفاع عن العولمة وعن حرية التجارة، وهما تقفان في ذلك معا بوجه نزعات الرئيس الأميركي الحمائية.
أما بصدد ملفات الشرق الأوسط، فإن الصين تسير وراء روسيا فيما خص سورية، وغالبًا ما رفعت ورقة «الفيتو» في مجلس الأمن احتذاء بموسكو. وفي ملف النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فإن الموقفين الفرنسي والصيني يتطابقان. لكن إذا كانت هناك منطقة يستطيع الطرفان التعاون فيها مباشرة؛ فهي أفريقيا التي يتنامى الحضور الصيني فيها، وغالبًا على حساب المصالح الأوروبية.
وخلاصة القول إنه ليس هناك بين باريس وبكين ملفات سياسية خلافية. والتضارب يتعين البحث عنه في الاقتصاد والتجارة، حيث يريد الطرف الأول وصولًا أسهل إلى الأسواق الصينية والتزام بكين بحرية الحركة والمعاملة بالمثل.
هل سينجح ماكرون؟ حتى الآن، ركز الرئيس الفرنسي اهتمامه الدبلوماسي على أوروبا والشرق الأوسط. وهي المرة الأولى التي يطل فيها على شرق آسيا من البوابة الصينية. ولم يذهب فقط إلى بكين مع وزرائه ومستشاريه، بل اصطحب وفدًا كبيرًا من رجال الأعمال لإبراز اهتمام فرنسا بأكبر سوق للمستهلكين في العالم. أما ميزان النجاح أو الفشل، فسيكون عند ساعة حساب العقود التي أبرمت والالتزامات التي قدمت. وفي أي حال، وعد ماكرون بأن يذهب إلى الصين كل عام. وفي أعوامه الأربعة المقبلة، ستتوفر له الفرصة ليقيس ما إذا كان قد نجح أكثر من الذين سبقوه إلى طريق الحرير.
أرسل تعليقك