حياة من دخان
آخر تحديث 16:46:38 بتوقيت أبوظبي
 صوت الإمارات -

حياة من دخان

 صوت الإمارات -

 صوت الإمارات - حياة من دخان

أمل مسعود
بقلم : أمل مسعود

كان متكئا على جذع شجرة. يدخن غليونه بصمت و هو يتأمل شكل الدخان المتصاعد في الهواء و هو يتلاشى رويدا رويدا. يبدأ الدخان قويا ثم يختفي بصمت تاركا رائحته في الهواء. تنفس بعمق و هو يفكر بألم أن حياته هي الأخرى لم تكن أكثر من دخان. كان يعتقد أنه يملك زمام الامور و قادر على ربط الأشخاص و الأشياء مع بعضهم البعض. كان واثقا من نفسه و من ذكائه. و يعتقد بإخلاص أنه سيد نفسه و هو من يقود حياته و أن له تأثير قوي على حياة الآخرين.

عندما تهاوى كل شيء فجأة وفق أحداث تافهة، متتالية  و متعاقبة، فطن إلى الحقيقة.  لقد كان مغفلا. غروره و كبرياؤه منعاه من رؤية الأمور كما هي. كان مزهوا بمجده دون أن يدرك أنه كان مجدا مزيفا. متجبرا بنفوذه دون أن يدرك أنه نفوذ مصطنع. منتعشا بثروته دون أن يعلم أنه لم يكن أكثر من حارس غبي لأموال غيره.  حتى غليونه منحه له أحدهم ممن كان يعتقد أنهم من أتباعه و كأنه يواسيه بنوع من الخسة. لم يعد يملك شيئا على الإطلاق. في الحقيقة لم يكن يملك شيئا على الإطلاق. دخل غريبا و خرج غريبا. و تأكد بأنه من لا يملك تاريخ  المكان و الأشخاص فإنه أبدا  لن يكون سيدا فيه. لن يكون أكثر من عابر سبيل مهما على شأنه. فوحدهم الغرباء في هذه القرية من كانوا يصعدون ببطء و يهوون بسرعة. وحدهم الغرباء من كانوا يبذلون مجهودا خارقا و يعملون بجد مبالغ فيه ليحظون باحترام و تقدير الأهالي و ليثبتوا لهم بأنهم جديرين بالثقة. أما أهل القرية الاصليون فلم يكونوا مكترثين لإثبات أي شيء لأي أحد. لم يكن يدرك بأن الأشياء الغير المرئية هي من كانت تحكم. الصمت. النظرات. السكنات. الإشارات. تقاطع الأنفاس. اللمسات. الشهيق. الزفير. الإيماءات الخافتة...  أما  ما هو مرئي فلم يكن سوى صدى و تمثيل و صخب. و كيف له و هو غريب على المكان أن يفك رموزه؟ و أن يقرأ حروفه المستعصية؟

فعندما وطأت قدماه لأول مرة القرية  منذ خمس سنوات تقريبا، كان قد تخرج لتوه من الجامعة و حاز على درجة ماستر في العلوم الاقتصادية. كان طالبا نشيطا في الجامعة. انخرط في معظم الحركات الطلابية. كان يعتقد أن تجاربه السياسية المتنوعة في الجامعة  ستشفع له عندما  سيخوض معارك الحياة التطبيقية. لم يكن يدري أن ما عاشه في حرم الجامعة لم يكن  أكثر من لعب أطفال و بأن الحياة أكثر تعقيدا و مكرا. 
يتذكر جيدا أنه كان يوم الاثنين. و لا يدري فيما إذا كانت مجرد صدفة في أنه سيغادر القرية يوم الاثنين أيضا. أخذ يحاول أن يتذكر أول يوم اثنين عاشة في القرية و يتأمل أخر يوم اثنين سيعيشه فيها و كأنه يحاول أن يقارن بين الاثنين. أرسل عيونه نحو محيط القرية يتأملها من جديد. لم يتغير شيئ على الإطلاق. الأطفال يلعبون لعبة البارشي  الأسبانية ، الشباب يلعبون  كرة القدم ،الرجال يلعبون الكرة الحديدية ،الشيوخ يلعبون لعبة الداما ، و النساء في حركة دءوبة بين الذهاب و الإياب و هن يتحدثن و يضحكن و يتمايلن. فقط بعض الوجوه تغيرت. فظهر أطفال جدد يلعبون البارتشي و بعض الأطفال السابقون أصبحوا شبابا يلعبون كرة القدم و بعض الشباب اصبحوا رجالا فتخلوا على كرة القدم لصالح الكرة الحديدية و بعض الرجال أصابهم الهرم فتحولوا إلى لعبة الداما. وبعضهم مات. ابتسم بمرارة. يحترفون اللعب. حياتهم لعبة لا تنتهي. بينما هو كان يعمل كحصان سباق. هم كانوا يلعبون مع الحياة ... و بحياة المغفلين امثاله .فطن إلى المصيدة مؤخرا بعد أن كان قد وقع فيها. 
وقعت عيناه على فتاة المزرعة و هي ممتطية حصانا بريا، تتمايل فوقه بغنج وقوة. تتعمد أن تظهر ساقيها المثيرتين حتى و هي على صهوة الحصان. تترك شعرها الكثيف و المتموج منسدلا فوق كتفيها يتمرد مع الرياح. جسمها المثير المتناسق و هو يلمع مع ضوء الشمس و عينيها البنيتين المرحتين و الدافئتين يجعلان منها انثى آسرة لا تقاوم. ضغط على شفتيه بقوة إلى أن شعر بالألم . ألقى عليها النظرة الأخيرة. فهو لن يراها بعد اليوم. اكتشف كم كان غبيا. فلا أحد من رجال الأهالي يهتم بها أو يعتريه شوق اتجاهها. فهي تأسر فقط الغرباء لأنهم مغفلون مثله. أما رجال الأهالي فهم يدركون أنها نار تحرق من يريدها لنفسه.
كان قد حظي بثقة أبيها، و كلفه بإدارة مزرعته  الكبيرة منذ سنتين. كان يشتغل كالبغل و هو يحاول رفع إنتاج المزرعة بشتى الطرق ليثبت جدارته بالمنصب.  وقتها كان يهتم فقط بعمله و لا يشعر بوجودها. فهو لم يكن يفكر مطلقا في أن يتطاول على سيده الذي منحه المال و المكانة بين الأهالي.
يتذكر جيدا يوم دخلت عليه في أحد الأيام و هو منهمك في مراجعة الاوراق بمكتبه. شدها إليه رائحة عطرها.  كان عطرا جذابا هو مزيج من رائحة الأزهار المنعشة و الأخشاب الناعمة مع القليل من  الليلاك و المسك. رفع عينيه لا إراديا ليتأمل صاحبة العطر.  كانت مرتدية فستانا قصيرا من جلد النمر البني و حذاء أحمر بكعب عال. و حزاما أسودا خفيفا. بدت له أنثى خارقة بساقيها الطويلتين الناعمتين و شعرها الاسود المتموج فوق كتفيها و شفتيها الممتلئتين المرسومتين بأحمر شفاه لامع. 
وقف ليصافحها. خطت ببطء و دلال نحوه، و هي تتعمد أن تترك جسمها يتمايل كأنها ترقص. عينيها في عينيه، تركت يده ممدودة دون أن تصافحه. و أخذت تعبث قليلا بربطة عنقه ثم جرتها نحوها. اقتربت شفاههما و تعمدت أن تقترب أنفاسها من أنفاسه دون أن تلتمس شفتيهما. شعر بالدوران و التلعثم. حاول أن يتمالك أعصابه. جرته إليها بلطف فاستسلم لها و قبلته قبلة طويلة على شفتيه. 
أشارت له بأصبعها بأن يتبعها. مشدوها و فاقدا للسيطرة مشى خلفها و شفتيه ترتجفان. ادخلته إلى حظيرة مليئة بالعلف و برائحة مخلفات الماشية. اغلقت الباب و نامت على القش فنام بجانبها و الأبقار تنظر إليهما. 
لم يستطع نسيانها. و كان متأكدا من حبها له. فما من أنثى تفعل ما فعلته معه إذا كانت لا تحب. قرر أن يطلب يدها من أبيها.
لم يعرف هل سيناديه عمي أم سيدي ؟ بدا متلعثما و هو يطلب يدها. أبوها كان باردا و متعجرفا. لم يكمل طلبه ليتفاجأ بأبيها يقاطعه بازدراء: " اسمع يا هذا. لقد تطاولت على أسيادك. كيف تخيلت أنك قد تصبح  يوما ما واحدا منا؟ "
شعر بالإهانة، فحاول أن يبرأ طلبه بأن ابنته تريده فنظر إليه أبيها بكراهية مقيتة و أجابه باحتقار: "  إذا كنت أسمح لحيوانات مزرعتي بمباشرة بعضهم البعض فلماذا لا أسمح لابنتي الوحيدة بالاكتفاء مع بغل مثلك؟"
تمنى لحظتها لو ابتلعته الأرض و خاصة عندما رأى فتاة المزرعة تلتف حول خصر أبيها بدلال و تعانقه و هي تضحك و تستهزأ من طلبه الوقح.
شعر بالوهن و الانكسار. كان يجر قدميه جرا ليصل إلى منزله ليمد رأسه فوق الفراش عله يبكي أو يصرخ أو يتألم وحيدا. عندما وصل إلى منزله وجد الشرطة بانتظاره تتهمه بالاختلاس. قادته إلى مخفر الشرطة و هو مصدوم لا يصدق كيف تتغير الأمور في لحظة. شهد جميع الأهالي ضده بأدوار محبوكة. شعر بالإحباط و الانهيار التام.
بعد أسبوع من الإهانات في مخفر الشرطة، جاء أب الفتاة و سيد المزرعة يزوره و السيجار في فمه. اقترح عليه ببرود أو بالأحرى أمره بأن يتنازل على جميع أملاكه لصالحه و بأن يغادر القرية غدا و إلا فالسجن مصيره. لم يكن له خيار غير الإذعان. وقع على الأوراق المطلوبة و هو يفكر بانكسار كيف اشتغل عبدا بدون مقابل لسيد المزرعة  و بدون ان يفطن إلى ذلك. 

 

emiratesvoice
emiratesvoice

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حياة من دخان حياة من دخان



GMT 17:05 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 16:57 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

GMT 02:34 2022 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 02:54 2022 الخميس ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مسرح "الراويات" المنسي والمغيب

GMT 17:52 2021 السبت ,04 أيلول / سبتمبر

صوت الملامة

GMT 23:53 2021 الأحد ,18 تموز / يوليو

بانتظار الربيع

GMT 08:41 2021 الثلاثاء ,25 أيار / مايو

تراتيل

GMT 20:29 2021 الثلاثاء ,18 أيار / مايو

"أحبك أكثر"

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates