ســاق علــى ســـاق
آخر تحديث 16:54:37 بتوقيت أبوظبي
 صوت الإمارات -

ســاق علــى ســـاق

 صوت الإمارات -

 صوت الإمارات - ســاق علــى ســـاق

د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري
بقلم - أحمد الخميسي

في إحدى الحجرات الضيقة بمقر الصحيفة كان خالد لمعي المشرف على صفحة الفن جالسا إلي مكتبه، ينصت باهتمام للهاتف الملصق بأذنه، وأصابعه تعبث بحركة عصبية بقداحة على المكتب. أمامه على الكرسي الوحيد بالحجرة جلس رسام الكاريكاتير أيمن على ركبتيه حافظة أوراق يمط طرفها من حين لآخر. أنهى خالد المكالمة ونهض واقفا بوجه متوتر. مسح سطح المكتب بنظرات سريعة، ثم قال:

-- لابد أن نغادر هذه القصة فورا.

تقلقل أيمن في مكانه يسأل مدهوشا :    

-ماذا حدث؟

قال خالد وهو يلم أوراقه بحافة كفه:

-علمت الآن أنهم هاجموا بيت جمال مؤلف هذه القصة التي نحن جزء منها. وراحوا يسألونه وهو بالبيجاما في حجرة النوم عما يقصده بالقصة، ثم  جرجروه  على سلالم العمارة وهم يتوعدونه بإعدام القصة بما فيها من أفكار وشخصيات وخواطر. هكذا سنكون أنا وأنت عرضة للموت إذا بقينا داخل هذه القصة، أو أننا قد نقضي زمنا نتعفن في العتمة داخل مخازن الكتب. علينا أن نجمع أوصافنا فورا ونهرب من هذه القصة بحيث لا يجدوا ما يدل علينا عند وصولهم.

هز أيمن رأسه باستياء وقال بنبرة بين التقرير والسؤال: 

-لكن الحوار الذي أدارة المؤلف على لساني ولسانك لم تكن  به كلمة تمس الخطوط الحمراء المعروفة؟   

أجابه خالد:

-نعم، لم يكن بالحوار عبارات مباشرة صريحة،  لكنه إجمالا كان يوحي بأن كل شيء أمسى محظورا حتى الهمسة. شخصيتك أنت كما رسمها الكاتب في القصة شخصية رسام كاريكاتير، وأنا مسئول عن صفحة فنية، قدمت لي فكرة كاريكاتير عن سجين يطلب كتابا فيقول له الشاويش: الكتاب غير متوفر الآن في مكتبة السجن، لكن لدينا في السجن مؤلف الكتاب نفسه والناشر وأحد القراء. أتود أن ترى أحدهم؟ ألا تنطوي هذه الفكرة برأيك على إسقاط سياسي؟ وللنظام كما  يعلم الجميع أنف يشم من على بعد المواطن المخرب سواء أكان كاتبا أم عالما أم طالبا متمردا.  

 قال أيمن:

-وكيف يميزون المواطن المخرب من المواطن الصالح؟

قال خالد متهكما:

-هذه بسيطة. إذا جلس المواطن ووضع ساقه اليسرى على اليمنى فهو يساري، ووجب اعتقاله، وإذا وضع اليمنى على الأخرى فهو يميني ووجب اعتقاله، وإذا لم يضع ساقا على ساق فهو لئيم وضيع يخفي معتقداته ويجب اعتقاله، أما المواطن الصالح فإنه يمشي طول الوقت لبناء مجتمع سعيد.

قال أيمن:

-لكن أيعقل أنهم أصبحوا يطاردون حتى من كان مثلي ومثلك مجرد خواطر قصصية؟

قال خالد :

-كل شيء يبدأ بخاطر يشحن الشعور، ثم ينقلب الخاطر الي كلمة واعية، وتمسى الكلمة حركة. لا تستهن بخاطر أدبي، أو فكري.   

تنهد أيمن بحزن:

- من سوء حظنا أن يكون خالقنا كاتب شغلته قضية الحرية، ولو أننا كنا من خلق مؤلف تمثيليات مسلية لضمنا لنفسينا حياة حافلة بالتكريم.

قال خالد :

- لا أحد يختار خالقه، لكن أيا كان ما سيجري فقد كانت حياتنا ومضة شريفة، لم نكذب فيها، ولم نتملق.

قال أيمن:

-أظن أن علينا أن نسارع بالهروب من بين سطور القصة قبل أن يدهمونا. 

اندفع أيمن خارجا من النص وخلفه خالد مهرولا. هبط الاثنان من مقدمة القصة إلي الفقرة الأولى وراحا ينزلقان على السطور، وهما يتجنبان الارتطام بعلامات الاستفهام، ويتفاديان الفواصل المدببة، إلى أن بلغا الفقرة الأخيرة من القصة فانحدرا على كلمات الخاتمة إلي الخارج، ووجدا نفسيهما على رصيف في شارع يضج بالحركة.

قال خالد وهو يعب الهواء: 

-هل فاتك أن تنظف القصة من أي أثر يدل على وجودنا فيها؟

قال أيمن:

-لقد حذفت اسمينا وجمعت أوصافنا، لكنني لم أراجع كل التفاصيل.

سرح خالد ببصره وصاح:

- يا إلهي! قداحتي على المكتب! عد إلى القصة بسرعة وهات القداحة لأن بصماتي عليها، ستجدها في السطر الثاني حين ذكر المؤلف أن أصابعي كانت تعبث بها.

استدار أيمن وتشبث بآخر حرف في القصة يتسلقه صاعدا إلى أعلى، وعندما بلغ الفقرة الأولى التقط القداحة من السطر الذي ورد ذكرها فيه، وفي أثناء هبوطه لمح وصف المؤلف له بأنه " شاب. رسام كاريكاتير. يبدو الصدق على ملامحه"، فمحا تلك الجملة، وواصل النزول، وعندما استقرت قدمه على رصيف الشارع نفض سرواله وقال لخالد :

-لم يعد في القصة شيء يقودهم إلينا، فإذا هاجموها الآن لن يجدوا شخصياتنا. 

تبادل الاثنان نظرة تشجيع وشد كل منهما على يد الآخر بقوة. سددا نظرة إلي الطريق الطويل المفتوح، وبدآ في السير بخطوات حثيثة، وعلى الفور انهمرت عليهما سحابة من الرصاص إلا أن طلقة لم تصرع أيا منهما، لأنهما كانا مجرد خاطر. اجتازا الميدان الفسيح وركضا مثل الريح، بلا توقف، يلمسان الأرض وبضغطة خفيفة يحلقان بخفة وطيش ودهشة وشجاعة، يرتفعان إلى قباب المدينة وقلاعها، يتأرجحان في السماء، يدوران، ينزلقان إلى أسطح البيوت، يرتفعان ثانية، يخفقان في الهواء، ثم ينزلان كل مساء إلي المقاهي، يجلسان، يضع كل منهما ساقا على ساق.       

emiratesvoice
emiratesvoice

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ســاق علــى ســـاق ســاق علــى ســـاق



GMT 02:34 2022 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 17:52 2021 السبت ,04 أيلول / سبتمبر

صوت الملامة

GMT 23:53 2021 الأحد ,18 تموز / يوليو

بانتظار الربيع

GMT 20:29 2021 الثلاثاء ,18 أيار / مايو

"أحبك أكثر"

GMT 20:28 2021 الثلاثاء ,18 أيار / مايو

"أحبك أكثر"

GMT 10:18 2016 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كارينا كابور في إطلالة رشيقة مع أختها أثناء حملها

GMT 15:51 2019 الإثنين ,13 أيار / مايو

حاكم الشارقة يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل

GMT 15:56 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت

GMT 12:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

قيس الشيخ نجيب ينجو وعائلته من الحرائق في سورية

GMT 11:35 2019 الخميس ,09 أيار / مايو

أمل كلوني تدعم زوجها بفستان بـ8.300 دولار

GMT 08:09 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

محمد صلاح يُثني على النجم أبو تريكة ويعتبره نجم كل العصور

GMT 19:44 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

"شانيل" تبتكرُ قلادة لؤلؤية بطول 60 قدمًا

GMT 16:32 2018 الجمعة ,28 أيلول / سبتمبر

كنيسة قديمة تتحول إلى منزل فاخر في جورجيا

GMT 16:59 2018 الثلاثاء ,10 تموز / يوليو

جاكوبس تروي تفاصيل "The Restory" لإصلاح الأحذية

GMT 17:32 2013 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

مقتل صاحب إذاعة موسيقية خاصة بالرصاص في طرابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates