القاهرة - صوت الامارات
صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب "جامع عمرو بن العاص والحياة الثقافية المصرية"، من تأليف الدكتور عبد الله إبراهيم المصرى، الكتاب ركز على مدرسة مسجد عمرو بنالعاص العلمية، والتى بدأت على يد عبد الله بن عمر بن العاص وعدد من الصحابة والتابعين
ونضجت هذه المدرسة العلمية، ونرى أبرز علامات هذا النضوج فى ظهور الإمام الليث بن سعد، فقد كان الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهم أبو الحارث المصرى (93- 175ه) أحد أعلام مدرسو الفقه فى جامع عمرو بن العاص بل يعتبر هو مؤسسها الحقيقى، واشتغل بالفتوى فى الجامع.
وقال يحيى بن بكير عنه: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث كان فقيه النفس، وكان الليق مقدما يقدمه أهل مصر علة من قدم عليهم من علماء المدينة والشام رغم كثرة الفقهاء آنذاك، وكان صاحب مذهب فقهى مستقل وأخذ عنه كثير من تلاميذ جامع عمر بن العاص فى مصر وخارجها.
وقال فيه الشافعي: "كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه"، وروى عن الزهرى وعطاء ونافع وخلف وروى عنه ابنه شعيب بن الليث وابن المبارك وآخرون، وناظره الزهرى وتعرف على الإمام مالك بن أنس فى المدينة وهو من جيله وتادلا فى قضايا كثيرة وتلازمًا فى حلقة ربيعة الرأى (ربيعة بن عبد الرحمن).
كما ناظر الخليفة العباسى الفقيه أبو جعفر المنصور حين قابله فى بيت المقدس وحاول أن يوليه واليًا على مصر فاعتذر، فأجزل له المنصور العطايا وكان له مجلس خاص فى جامع عمرو بن العاص يتعرض فيه للفتيا ويرد على استفسارات ومسائل الناس فى الجامع مستوحيًا بالقرآن الكريم وآياته فى فتاويه؛ فإن لم يجد لجأ للسنة والأحاديث النبوية وإجماع الصحابة عنده نادر فإن لم يجد اجتهد برأيه وكان يلجأ إلى القياس والعادات والعرف ما لم تخالف نصا فى الكتاب والسنة، وكان مجلس الفتيا هذا بعد مجلس الوالى والقاضى ومجلس أهل الحديث، وقيل المجلس الخاص بحاجات الناس فى داره هو المجلى الرابع من مجالسه الأربعة.
واختلف الليث بن سعد فى الرأى والفقه مع مالك وأبى حنيفة، وكانت له سطوة على قضاة مصر، حيث طلب من الخليفة العباسى المهدى بعزل القاضى إسماعيل بن اليسع الكوفى الذى حكم فى الأحباس (الأوقاف) برأى أبى حنيفة، فعزله المهدى كما حل مسألة فقهية للخليفة العباسى هارون الرشيد فى طلاق زوجه ومحبوبته زبيدة إذا لم يدخل الجنة وحلها بآية قرآنية من سورة الرحمن لقوله تعالى: [ولمن خاف مقام ربه جنتان] فأقطعه الرشيد أرض الجيزة كلها مكافأة له على هذه الفتوى، مما يدل على نبوغه فى الفقه واستنتاج الحكم من القرآن، وكان عقله موسوعة من المعارف والعلوم الشرعية والأدب واللغة والفلسفة والطبيعيات والرياضيات والطب أيضًا، وقال الشافعى عنه تقديرًا لعلمه: "ما فاتنى أحد فأسفت عليه كالليث بن سعد" ومن مؤلفاته كتاب التاريخ وكتاب مسائل فى الفقه، فيعد الليث بن سعد المؤسس الحقيقى للمدرسة الفقهية فى جامع عمر ابن العاص بالفسطاط.
ازدهر تفسير القرآن الكريم فى مدرسة عمرو بن العاص ومن علماء التفسير واللغة والنحو فى جامع عمرو بن العاص الذين أسهموا فى تفسير القرآن الكريم ابن حرير الطبرى (224- 310ه)، وله تصانيف عديدة لم يصلنا منها سوى كتاب التفسير (جامع البيان فى تفسير القرآن) ولم يؤلف أحسن منه وكتاب التاريخ المعروف (تاريخ الأمم والملوك) وقد اعتبر الطبرى أبا التفسير وكان شافعيًا ثم انفرد بمذهب مستقل، وكان يستنبط الأحكام عند تفسيره للآية، وأتم تفسيره فى سبع سنوات، ويعتبر المرجع الأول للتفسير بالمأثور، وتلك ميزة غير معروفة لغيره فى كتب التفسير بالرواية، فهذا التفسير من أهم تفاسير الرواية والأثر التى تجمع به أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأقوال الصحابة؛ فهو أعظم كتاب يضم المأثور من التفسير ويعد حجر الأساس لأدب التفسير القرآنى، وفى بدايات إبداء الرأى والنظر فى التفسير، وفتح الباب أمام المفسرين لإعمال العقل والرأى فى التفسير فهو أول كتاب صحيح وضع فى التفسير على مذهب السلف، ومن أجل التفاسير وأعظمها لأنه أول من تعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض كما تعرض للإعراب والاستنباط.
كما تخرج عدد غير قليل من فقهاء المغرب والأندلس فى المدرسة الفقهية بجامع عمرو بن العاص خاصة على مذهب مالك الذى حملوه لأوطانهم وكذا فى علم لكلام وتصدى علماء جامعة الفسطاط لمحنة خلق القرآن ومنهم من ضحى بحياته كالإمام البويطى ومنهم من ضحى بحريته وذاق مرارة قيود السجن وصودرت أمواله كأبناء عبد الله بن عبد الحكم (أبو العلماء) وتوفى فى السجن ابنه عبد الحكم وفى علم التصوف استطاع ذو النون المصرى أن يحول التصوف من مجرد الزهد إلى علم يدرس بعيدًا عن الشعوذة كما استقبل الجامع الزهاد والمتصوفة من أهل الكرامات فى المشرق الإسلامى والمغرب والأندلس سواء أكانوا علماء أو طلاب تخرجوا فيه بعد أن أخذوا العلم من شيوخه وعلماء ورووا عنهم.
كما تكونت مدرسة لغوية ونحوية فى جامعة جامع عمرو بن العاص كان لها شأن كبير ودور ملموس فى نشر اللغة العربية وعلومها بين أهالى مصر (القبط) الذين دخلوا فى الإسلام بعد الفتح فاستقبلت هذه الجامعة فحول الشعر من شعراء العرب وكثير من أهل النثر منذ الفتح حتى نهاية الدولة الإخشيدية وكانت حلقاتهم الأدبية فى أروقة الجامع وعلى سطحه للمناظرات والسمر ونم الشعر وإلقاء النوادر ومن فصحاء مصر سرج الغول الذى كان يأنس به الإمام الشافعى، كما كان للمدرسة التاريخية دور بارز فى تسجيل أهم الحوادث فى التاريخ من خلال كبار المؤرخين وأصحاب السير والمغازى والأيام والقصاص والوعاظ المذكرين.
أرسل تعليقك