تونس - صوت الإمارات
من المسرحيات المشرقية القليلة التي اتخذت من التاريخ المغاربي عامة والتاريخ التونسي على وجه الخصوص مادة لها مسرحية "طورغوت" لعضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي رعاه الله، الصادرة سنة 1911 عن منشورات القاسمي في الشارقة . ففي هذه المسرحية يعود الكاتب إلى أجزاء من تاريخ تونس كانت إلى وقت قريب مهملة، أهيل عليها التراب، عن وعي عامد، فأعاد احياءها وبعثها وتسليط الضوء عليها ليؤكد غناها وقوتها وقدرتها على البقاء والاستمرار .
حاكم الشارقة اختار القائد التركي "درغوث" باللسان العربي أو "طورغوت" باللسان التركي ليكون محور مسرحيته وبطلها من دون منازع . واختياره هذه الشخصية تسوغها أسباب عدة لعل أهمها أنها الشخصية التي تحققت فيها مجموعة من المقومات رفعتها من مستوى التجربة الفردية إلى مستوى التجربة الكلية، ونقلتها من حيز الواقع إلى رحابة الرمز فأصبحت، بذلك، قادرة على الهجرة في المكان والزمان من غير أن يدركها الموت أو يعتريها الدبول .
هذا الرمز الذي احتفى به الكاتب تم انتقاؤه بعد قراءة متأنية للتاريخ، فطورغوت التركي الأصل قضى حياته يتصدى للفرنج الصليبيين يريدون الاستيلاء على المغرب العربي على خطى شارل الخامس الذي قاد حملة إلى تونس سنة ،535 وإلى الجزائر سنة 1543 . هذا البحار الذي دوخ أوروبا عقودا طويلة كان، في الواقع، أحد القادة الأتراك العظام من أمثال عروج، وخير الدين، وسنان الإزميري، وصالح الرايس الذين انطلقوا إلى الحوض الغربي من المتوسط يشنون الغارة تلو الغارة على سواحل إسبانيا لإنقاذ الأندلسيين المضطهدين ونقلهم إلى موانئ تونس والجزائر، مدافعين، في الوقت نفسه، عن السواحل العربية التي يتربص بها الأعداء .
تفتتح المسرحية بوقوع طورغوت أسيرا في يد جيانتين دوريا، قائد الأسطول البحري الإسباني، على ساحل جزيرة كورسيكا سنة 1540 وتنتهي بموت البطل التركي سنة 1565 وهو يحاصر جزيرة مالطة . وبين هذين التاريخين تتعاقب المشاهد لتصور مآثر هذا القائد الذي عد العالم الإسلامي، كل العالم الإسلامي، وطنه، فتصدى بقوة لأعدائه، وحمى بشجاعة نادرة ضفافه .
والواقع أن هذه المشاهد لا تستمد قيمتها من تصوير بطولات هذا القائد بقدر ما تستمدها من نسيجها الدرامي، من عناصر التوتر فيها، من ضروب الصراع التي تصورها، فالكاتب اختار من حياة طورغوت الطويلة المراحل التي شهدت ذروة الصراع بين هذا القائد التركي والقوى المناوئة له، وقد تجلى هذا الصراع في صور عدة وأشكال كثيرة لعل أهمها الصراع الذي دار بين طورغوت، وفلول الصليبيين في أماكن عدة من المتوسط يسوقه باستمرار أحلامهم في بسط نفوذهم على شمالي إفريقيا .
إن الكاتب، وإن تشرب بعض قوانين التراجيديا اليونانية، فإنه لم يكتب تراجيديا أرسطية، وإنما كتب تراجيديا عربية تقول قيم الحضارة العربية وتفصح عن مثلها العليا . . التراجيديا في التراث اليواني هي تصوير قصة بطل تنتهي حياته بفاجعة، والفاجعة التي تحل بالبطل هي نتيجة خطأ ارتكبه أو لعيب فيه لم يدركه في بادئ الأمر، وأساس التراجيديا، كما أوضح أرسطو، هو الصراع غير المتكافئ، صراع الإنسان مع القوى الغيبية بوصفها قوى أكبر منه من ناحية، وقوى يغلفها الشعور الديني من ناحية أخرى .
أرسل تعليقك