في ظلال قلعتي الجلالي والميراني التاريخيتين وإلى جوار سور مسقط القديمة ومقابل قصر العلم العامر يسعى المتحف الوطني بقاعاته الخمس عشرة إلى إبراز الشواهد والمقتنيات المادية والمعنوية المكونة لتاريخ وتراث وثقافة وفنون السلطنة والحفاظ عليها بكافة تجلياتها وإبراز الأبعاد الحضارية والتاريخية والثقافية مع توظيف واعتماد أفضل الممارسات والمعايير المتبعة في مجالات الإدارة المتحفية وإدارة المقتنيات والعرض.
وما بين حجر الصوان متعدد الاستخدامات بقاعة الحقب الزمنية والذي يرجع تاريخه إلى ما يقارب مليوني عام وقاعة عصر النهضة العمانية وأول كرسي جلوس لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم عند توليه مقاليد الحكم عام 1970 يشاهد الزائر للمتحف حوالي ستة آلاف مفردة وتحفة أثرية تحويها قاعات العرض الثابت بالمتحف تؤرخ لمختلف الحقب التاريخية لعمان منذ بداية الاستيطان البشري وحتى الوقت الحاضر.
وتتوزع تلك المفردات والتحف ما بين التحف الأثرية والصناعات الحرفية والمخطوطات والوثائق والمراسلات والمطبوعات القديمة والطوابع البريدية ومجسمات للسفن والمراكب وأدوات الملاحة البحرية والأسلحة التقليدية والمجسمات المتحفية فائقة الدقة للقلاع والحصون والمباني التاريخية واللقى المتصلة بالعمارة والآلات والأدوات والمعدات الزراعية وما يتصل بالأفلاج والنقود والعملات الورقية والمعدنية والخزف والأثاث والفنون التطبيقية والصور الفوتوغرافية والفنون التشكيلية والآلات والأدوات الموسيقية إضافة إلى مفردات التراث غير المادي وهي ما يتصل بالطعام والشراب والشعر والقصص والرقص والغناء الشعبي إضافة إلى التسجيلات المرئية والصوتية والمكونات التفاعلية الرقمية. وقد أقيم المتحف الوطني بناء على التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم بإنشاء معلم ثقافي يحتضن مفردات التراث الثقافي العماني بشقيه المادي والمعنوي وتوظيف واعتماد أفضل الممارسات والمعايير المتحفية المتبعة. وتبلغ المساحة الإجمالية لأرض المتحف 24 ألف متر مربع والمساحة الإجمالية للمبنى 13 ألفا و700 متر مربع والمساحة الإجمالية لقاعات العرض الثابت 4 آلاف متر مربع.
وخلال الفترة من 2010 م إلى 2014م شهد المتحف دعوة 30 خبيرا وباحثا من داخل وخارج السلطنة وتمت الاستعانة بـ 21 بعثة أثرية لإعداد وتطوير مكنونات قصة السرد المتحفي. وقد شهد المتحف خلال الفترة الماضية ابتعاث عدد من الموظفين للتدريب والتأهيل المهني خارج السلطنة واستضافة دورات تخصصية في مجال العمل المتحفي من قبل مؤسسات عالمية مثل متاحف (تيت) من المملكة المتحدة ومتاحف (سميث سونيان) من الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسسة (كالوست غبولبيكان) من جمهورية البرتغال. ويهدف المتحف الذي يقف متآلفا مع ما يحيط به من مقومات سياحية وثقافية وتاريخية إلى تحقيقِ رِسالته التعليميِة والثَّقافية والإِنسانية وإِلى ترسيخِ القيمِ العُمانية النبيلة وتفعيل الانتماء والارتقاء بِالوعيِ العام لدى المواطن والمقيمِ والزائرِ من أَجل عُمان وتارِيخها وتراثها وثقافتها وتنمية قدراتهم الإِبداعية والفكرِية لاسيما في مجالات الحفاظ على الشواهد والمقتنيات وإِبرازِ الابعاد الحضارِية لعمان وتوظيف واعتماد أَفضل الممارسات والمعاييرِ المتبعة في مجالات العلومِ المتحفية وتقديمِ الرؤية والقيادة للصناعة المتحفية بالسلطنة كما يهدف المتحف الوطني أيضا إلى المحافظة على مكنونات التراث الثقافي العماني من خلال دعم الأبحاث والدراسات العلمية والتاريخية والخطط للحفظ والصون الوقائي حيث صممت مرافقه وفق معايير المجلس الدولي للمتاحف إضافة إلى التعليم والتواصل المجتمعي الذي يتحقق من خلال مركز التعليم المتحفي الذي يقدم الخدمات التعليمية المتميزة لكافة الزوار ومختلف الفئات العمرية خاصة للأطفال والفئات العمرية للطلاب ومن خلال تقديم خدمات الزوار المتميزة وللفئات الخاصة. ويتميز المتحف الوطني بأنه أول مبنى عام في السلطنة يضم تسهيلات متقدمة لذوي الإعاقة ومنهم المكفوفون وذوو الإعاقة الجسدية من خلال توظيف رموز لغة (برايل) بالعربية وتوظيف العرض المكشوف حتى يمكن التفاعل مع المقتنيات بشكل حسي مباشر وهو أول متحف في الشرق الأوسط يقوم بتوظيف رموز (برايل) العربية في سياق التفسير المتحفي ومنظومة المخازن المفتوحة ، حيث يستطيع الزائر أن يشاهد ويعايش المراحل التي تمر بها التحف الأثرية من جرد وتوثيق وفحص مبدئي وحفظ وصون وصولاً إلى مرحلة حفظها بالشكل المؤقت في المخازن المفتوحة وما كان سابقا يتم خلف الكواليس سيكون في المتحف الوطني متاحا للمشاهدة بشكل ثابت ومتواصل.
وقد روعي عند إعداد قصة السرد المتحفي التوفيق بين السياقين الزماني والمكاني وهو أحدث توجه فلسفي يؤطر لسياق قصة السرد المتحفي المتبع حاليا بخلاف التوجه التقليدي إما أن يكون توجها زمانيا من الأقدم للأحدث أو من الأحدث فالأقدم حيث يعمل التوجه الجديد على إيجاد قيمة معنوية وفكرية مضافة للزائر وستفتح آفاقاً جديدة لقراءة مدلولات التراث الثقافي العماني وفق آلية لم يعهدها سابقا.
وعبر القاعات الخمس عشرة التي يضمها المتحف يدخل الزائر في رحلة عبر الزمان والمكان تشعر فيها بعظمة المنجز الحضاري العماني وكيف عاش إنسان عمان وأبدع وتفاعل مع مختلف الحضارات بدءا من أول قاعة من قاعات المتحف عند المدخل الرئيسي وهي قاعة الأرض والإنسان حيث تواجهك على الجهة اليمنى شرفة عمانية تقليدية تطل من الطابق الثاني وهي تحاكي نظام الشرفات في المعمار العماني بلونها الأزرق الفاتح الذي يعبر عن إطلالتها على البحر وعلى الجهة الأخرى تطل مؤخرة سفينة عمانية من نوع الغنجة موجودة بحجمها الحقيقي هي أقرب إلى سفينة فتح الخير التي تقف شامخة حاليا على شواطئ مدينة صور التاريخية. وتضم (قاعة الأرض والإنسان) الصناعات الحرفية العمانية التي تعد تجسيدا ملموسا للدولة وشعبها في الماضي والحاضر ذلك لأنها توثق مختلف أنماط الحياة في السلطنة وتعبر كذلك عن القيم الثقافية التي تشتهر بها من ضمنها الإسلام وكرم الضيافة والجود والترابط الاجتماعي ، وتعرض هذه القاعة كيف أن جغرافية الأمكنة والموارد المتوفرة قد شكلت العديد من الثقافات على المستويين المحلي والوطني على حد سواء.
وتركز هذه القاعة أيضا على أهمية الموارد المائية في السلطنة وما تفرضه حياة الصحراء على سكانها إضافة إلى ثراء الواحات وعزلة الجبال كما توضح التعددية الثقافية في المناطق الساحلية. وتوضح قاعة الأرض والإنسان المسار من الحاجة إلى الفن من خلال عرض الأزياء التقليدية والحلي وكذلك الأسلحة المستخدمة في المناسبات الرسمية وغيرها من الصناعات الحرفية التي تلبي الحاجات الأساسية للبقاء إضافة إلى كونها من الأولويات الفردية والجماعية التي تعكس مظاهر الزينة والهوية والتعابير الدينية.
ثم تأخذك الرحلة إلى قاعة التاريخ البحري والقاعات الأخرى التي تشمل ايضا قاعة السلاح، قاعة المنجز الحضاري، قاعة الأفلاج، قاعة العملات، قاعة الحقب الزمنية، قاعة ما قبل التاريخ والعصور القديمة، قاعة بات والخطم والعين، قاعة أرض اللبان، قاعة عمان والعالم، قاعة عظمة الإسلام، قاعة عصر النهضة، قاعة التراث غير المادي إلى جانب وجود قاعة مخصصة للمعارض المؤقتة تم تصميمها وفق الضوابط والمعايير المتبعة عالميا لهذا النوع من المنشآت وقاعة المقتنيات (المخزن المفتوح) التي تتيح للزائر التعامل مع القطع المتحفية بشكل مباشر تحت إشراف خبير متخصص. وفي (قاعة التاريخ البحري) نشاهد بجلاء علاقة عمان الوطيدة بالبحر، فمع سواحلها المترامية الأطراف يبقى التاريخ العماني تاريخا بحريا بامتياز ، إذ أبحر العمانيون لقرون مضت على طول هذه السواحل بحثا عن لقمة العيش وارتحل التجار العمانيون حاملين بضائعهم عبر البحار والمحيطات منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وتوضح المعروضات أن العمانيين في العصر الإسلامي كانوا جزءا من شبكة تجارية واسعة النطاق تمتد من الصين إلى شرق إفريقيا مشكلة بذلك أطول طريق تجاري بحري معروف في ذلك الوقت وخلال القرون الأربعة الأخيرة ساهم العمانيون في تأسيس إمبراطوريتين بحريتين ربطتا عمان بالخليج العربي وساحل مكران وشرق إفريقيا. وتشير المفردات المعروضة إلى أن هذا النشاط أدى إلى إيجاد ثقافة بحرية لعمان، فما إن ارتاد العماني البحر حتى أصبح نابغا في الملاحة وكاتبا لأفضل الأدبيات في علم الملاحة البحرية وصانعا لأنواع شتى من المراكب مستخدما ما توفر بين يديه من مواد وأدوات، واليوم تواصل عمان علاقتها بالبحر ممثلة في أسطولها العصري وموانئها المزدهرة وكذلك في إحياء موروثها البحري القديم حتى أصبحت في طليعة دول المنطقة في هذا المضمار فالسفن والمراكب التقليدية ما هي إلا رمز من رموز علاقة عمان ببقية العالم. وتتناول (قاعة السلاح) الأبعاد الحضارية والثقافية للسلاح التقليدي في عمان منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى بدايات القرن العشرين الميلادي كما تستعرض تطور تقنيات تصنيعها نتيجة التواصل مع العالم الخارجي، وتنقسم القاعة إلى قسمين هما قسم الأسلحة التقليدية ويتضمن السيوف والكتارات والرماح والفؤوس والسهام والخناجر العمانية، أما القسم الثاني فهو عن الأسلحة النارية بكافة أنواعها.
وقد تم تصميم هذه القاعة بما يتناسب والسياق الموضوعي للمعروضات إذ أنها مستوحاة من أحد برجي حصن الحزم في محافظة جنوب الباطنة الذي أنشئ في القرن السابع عشر الميلادي في عهد دولة أئمة اليعاربة حيث تزامن بناؤه مع قيام الامبراطورية العمانية الأولى. وتحتفي (قاعة المنجز الحضاري) بالتنوع المعماري في السلطنة منذ الألف الثالثة قبل الميلاد (حضارة مجان ) وحتى الوقت الحاضر أي مسيرة خمسة آلاف عام من خلال استعراض نماذج متحفية منتقاة للعمارة التقليدية من قلاع وحصون وبيوت تاريخية ومساجد.
وتحتوي القاعة على ستة أقسام يتناول القسم الأول موقع قلعة بهلا وواحتها وهو أول موقع في عمان تدرجه منظمة ( اليونسكو ) ضمن قائمة التراث العالمي عام 1987 ، أما القسم الثاني فيصف أهم العواصم السياسية لعمان مثل صحار والرستاق ونزوى ومسقط ، وفي القسم الثالث يتم تناول عدد من القلاع والحصون العمانية المتميزة بأنماطها المعمارية وخصوصيتها التاريخية والقسم الرابع يوضح القصور الريفية والبيوت المحصنة.
أما القسم الخامس فيوضح أنماط البيوت السكنية التقليدية في محافظات السلطنة، ويتناول القسم السادس الابعاد الجمالية للعمارة التقليدية في عمان، ونشاهد في هذا القسم بيت فرنسا في مسقط الذي يعود إنشاؤه الى القرن التاسع عشر الميلادي ومسجد الشواذنة بولاية نزوى نموذجا للمساجد العمانية التقليدية و"البيت العود" في ابراء وبيوت القفل بمحافظة مسندم ومجسما لحصن الخندق بالبريمي وآخر لقلعة بهلا. وتضم (قاعة الافلاج) منظومة الافلاج العمانية ومن بينها الافلاج العمانية الخمسة التي ادرجتها اليونسكو ضمن لائحة التراث العالمي عام 2006 تعبيرا عن المكانة الدولية لهذا النظام المائي الفريد الذي يشكل موروثا حضاريا أبدعه العمانيون كأقدم هندسة ري بالمنطقة وهي افلاج دارس والخطمين والميسر والجيلة.
ويوجد هناك حوالي 3000 فلج حي لا تزال قيد الاستعمال في ربوع السلطنة، ويستخدم هذا النظام الجاذبية الارضية لتسيير المياه في قنوات مصادرها الثمينة تحت الارض أو على سطحها لمسافات طويلة غالبا، وتحمل مثل هذه القنوات المياه الجوفية بواسطة العيون أو المياه السطحية لاستخدامها في الزراعة والصناعة او للاستعمالات اليومية الاخرى.
وتعود منظومة الافلاج في عمان الى حوالي القرن السادس الميلادي وتشير الاكتشافات الاثرية الحديثة الى ان انظمة الري كانت تستخدم في شمال عمان منذ العصر البرونزي ( 3100 ـ 2000 ق.م ) ولا تزال الافلاج الى يومنا هذا تقسم حصص مياهها بشكل عادل في المدن والقرى وذلك عن طريق الاعراف والسنن وفقه الافلاج. ومن بين قاعات المتحف الوطني (قاعة العملات) التي تقدم نظرة الى تاريخ النقود في السلطنة منذ ظهور اول النقود المعدنية ووصولا الى احدث التقنيات المصرفية الرقمية حيث تعطي المقتنيات الموجود في القاعة انطباعات فريدة في فهم العلاقة المتغيرة لعمان مع بلدان العالم وكذلك في طبيعة تشكل الهوية الوطنية. ويمتد تاريخ النقود في عمان قرابة ( 2300 ) سنة حيث تم صك وطباعة معظم العملات المعروضة في القاعة في الخارج ووجدت طريقها الى عمان من خلال التبادل التجاري، كما ان العديد منها شكل جزءا من كنوز كانت مخبأة منذ مئات السنين ولم يستردها اصحابها ابدا . لقد كان المقدونيون اول من ادخل النقود المعدنية إلى اقليم عمان في القرن الرابع قبل الميلاد ولقد صكت اقدم تلك النقود خلال العصر الحديدي المتأخر.
أرسل تعليقك