دبي - صوت الامارات
أصدرت "منظمة الخليج للاستشارات الصناعية" (جويك) تقريرًا اقتصاديًا تناولت فيه التداعيات والخيارات المتاحة في مواجهة انخفاض أسعار النفط، حيث أشارت إلى أن النفط يعتبر المصدر الأساسي والعمود الفقري لاقتصاديات دول مجلس التعاون، إذ يشكل حوالي 47 % من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يحتاج الباحث لعناء كبير ليكتشف أن النمو الاقتصادي لدول المجلس مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأسعار النفط، وأن الفوائض النفطية هي المصدر الأول والأكبر للعملات الأجنبية، وهي التي تمد القطاعين العام والخاص بالتمويل اللازم لإقامة المشاريع التنموية والاستثمارية.
وذكر التقرير الذي أعدته إدارة الدراسات والسياسات الصناعية في "جويك" أن السنوات العشر الأخيرة زاخرة بالأحداث الكبيرة، التي كانت لها آثار مركبة ومتداخلة على اقتصاديات دول المجلس والمنطقة بشكل عام، ومن تلك الأحداث الطفرة النفطية التي جاءت على مرحلتين، ابتدأت المرحلة الأولى منها بشكل متصاعد ووصلت ذروتها في العام 2008، حيث وصل معدل سعر برميل النفط .594 دولار لسلة أوبك، تخللها حدث مهم آخر، وهو الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية، وألقت بظلالها على معظم دول العالم بدرجات مختلفة اعتمدت على مساحة تقاطعاتها مع الأسواق المالية وأسواق الاستثمار الأميركية.
وعلى الرغم من تأثر دول المجلس بالصدمة الأولى للأزمة المالية العالمية التي حدثت في نهائية العام 2008، والتي أدت لانخفاض قيمة الاستثمارات المالية الأجنبية للصناديق السيادية الخليجية، التي بلغت حوالي 1.4 تريليون دولار آنذاك، فإنها تمكنت من امتصاص تداعياتها واستيعاب هزاتها الارتدادية والتعافي من آثارها في وقت قياسي، عجزت عنه بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا واليونان، وقد ساعدها في ذلك توفر الفوائض المالية كأرصدة احتياطية، واستئناف التدفقات المالية الناجمة عن معاودة ارتفاع أسعار النفط بشكل تدريجي لتصل في العام 2011 إلى حوالي 107.5 دولار للبرميل، بالإضافة إلى التدابير الاقتصادية التي اتبعتها هذه الدول للتعامل مع تداعيات تلك الأزمة، ثم ما لبثت أسعار النفط معاودة الارتفاع بشكل تدريجي بعد الأزمة المالية العالمية، لتصل ذروتها مرة أخرى في العام 2012، ويصل سعر البرميل حوالي 109.5 دولار، وحوالي 150 دولاراً لبعض أنواع النفط.
وجاءت خلال العقد الماضي أيضاً أحداث ما يسمى بالربيع العربي، وما شهده من تجاذبات سياسية وعسكرية أثرت على اقتصاديات المنطقة برمتها، وبعد بوادر انخفاض أسعار النفط والتي بدأت مع نهاية العام 2013 لم تتمكن دول "أوبك" من تدارك هذا التراجع، حيث لم تتمكن من تخفيض الكميات المنتجة، التي بلغت حوالي 32 مليون برميل يومياً متجاوزة الطلب العالمي، الذي يبلغ حوالي 30 مليون برميل، ما شكل فائضاً في العرض، خاصة مع بدء الولايات المتحدة الأميركية بإنتاج الزيت الصخري، مما ساعد على مزيد من الانخفاض في الأسعار، وما زاد الأمر سوءاً انخفاض الطلب العالمي على النفط بشكل متزامن بسبب تباطؤ النمو العالمي إلى أن وصل سعر البرميل حوالي 28 - 30 دولار لأول مرة منذ العام 2003، حيث يبين الجدول التالي متوسط أسعار النفط لسلة "أوبك" للفترة من 2003 - 2016.
لقد شهدت القطاعات الاقتصادية في دول المجلس، خاصة قطاعات الصناعة والإنشاءات والتجارة، ازدهاراً ملفتاً للنظر خلال العقد الماضي، وخاصة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وباتت دول المجلس تشكل رقماً مهماً في عالم التجارة والاستثمار، خاصة في محيطها العربي، لا سيما وأنها تشكل نقطة ربط بين الدول العربية ودول جنوب شرق آسيا، فقد شهدت تزايداً ملحوظاً في وتيرة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال فترة العشر سنوات الماضية (2005 - 2014)، حيث ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية التراكمية الوافدة بمعدل نمو مركب بلغ حوالي 19.9 % سنوياً، وهو ضعف معدل النمو السنوي للاستثمارات العالمية، والتي بلغ معدل نموها حوالي 9.6 % خلال الفترة نفسها، كذلك فإن متانة الاقتصاديات الخليجية جعلت منها ملجأ آمناً لرؤوس الأموال الأجنبية إبان الأزمة المالية العالمية وما بعدها، خاصة أنها كانت تمتلك البيئة الاقتصادية الملائمة، ومستعدة لاستقبال الاستثمارات الهاربة من عاصفة الأزمة، لتبلغ قيمة الاستثمارات التي استقطبتها دول المجلس بعد العام 2008 حوالي 285.2 مليار دولار في عام 2009، مشكلة حوالي 1.6 % من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتراكمة الوافدة لدول العالم.
وقد حققت دول المجلس خلال الفترة من 2005 - 2014 فوائض مالية كبيرة، بلغت حوالي 416.3 مليار دولار في العام 2014، تم إنفاق جزء كبير منها على البنية التحتية، ما وفر سيولة لدى النظام المصرفي، مكنت من تنمية استثمارات القطاع الخاص. وقد حاز قطاع الصناعة الخليجي على استثمارات أجنبية بلغت حوالي 53 مليار دولار، وساههم بحوالي 15 % من الناتج المحلي لدول المجلس، وتعمقت صناعات تقليدية في دول المجلس مثل الصناعات الغذائية وصناعة الألومنيوم، وظهور صناعات جديدة مثل صناعة السفن وقطع غيارات الطائرات. علاوة على ذلك فقد تمكنت دول المجلس من تقديم الدعم المالي لاقتصاديات عربية أخرى عانت من تداعيات ما سمي بالربيع العربي مثل مصر والأردن واليمن.
ويتبين مما سبق الأهمية التي يحظى بها النفط كمحرك أساسي لعملية التنمية في دول المجلس، ودرع اقتصادية واقية ضد الأزمات والهزات الاقتصادية، مما لا يدع مجالاً للشك أن الانخفاض الحالي لأسعاره سوف تكون له آثار سلبية على الاقتصاديات الوطنية لدول المجلس، خاصة على المدى المتوسط والقصير، ويُحتم على دول المجلس البحث عن مصادر جديدة لتمويل موازناتها العامة، والتي يشكل النفط حالياً حوالي 75 % منها. خاصة بعد توقع انخفاض الإيرادات النفطية إلى حوالي 287 مليار دولار العام الحالي 2016 في حال بقاء أسعار النفط كما هي عليه الآن. وإذا كانت دول المجلس تعول على النمو في القطاعات غير النفطية التي تبلغ حوالي 3 % سنوياً لتعويض التناقص في الإيرادات النفطية، فإن هذه النسبة لا تغطي معدل النمو السكاني، كما أنها غير قابلة للاستمرار، لأن زخم النمو في تلك القطاعات كان على الدوام مدفوعاً بالفوائض النفطية، التي توفر التمويل اللازم لاستثماراتها من جهة، وتؤمن القوة الشرائية لمنتجاتها من جهة أخرى، بالإضافة إلى تمويل التوسع في إنشاء البنى التحتية اللازمة لاستقطاب وإدامة الاستثمارات.
ورغم النتائج المتواضعة لجهود التنويع الاقتصادي في دول المجلس، فإن السعي نحو التنويع خلق مناخاً إيجابياً يمكن أن يكون ساحة للعمل الاقتصادي غير النفطي في حال تدهور الإيرادات النفطية، فقد أدى النمط الاقتصادي الذي تم تبنيه خلال العقود الماضية والهادف لتنويع القاعدة الإنتاجية إلى تطوير البنية التحتية لدول المجلس، وتحديث التشريعات الاقتصادية والتطوير المؤسسي، وتأهيل القطاع الخاص للعب دور أكبر في عملية التنمية، وقيام دول المجلس بتبني إستراتيجيات تنموية جادة لزيادة القدرة التنافسية وتحرير الاقتصادات الوطنية. كل ذلك سوف ينعكس إيجابياً في الحد من تداعيات انخفاض أسعار النفط، بالإضافة إلى ما يتوجب اتخاذه من قرارات إستراتيجية تتعلق بإصلاحات اقتصادية، تتمثل بالرفع التدريجي للدعم، وخاصة الدعم المقدم للمحروقات، والتحول نحو الطاقة المتجددة، وتعميق دور القطاع الخاص بشكل أكبر في التنمية، وإشراكه في صنع القرار بشكل فعال، وتأهيل المواطنين الخليجيين للانخراط بشكل أكبر بالعمل في القطاع الخاص، وتنويع القاعدة التصديرية، وفرض ضرائب على الدخل والأرباح، كذلك فقد آن الأوان لإعادة ملف النفط إلى طاولة مباحثات منظمة أوبك، لإعادة النظر بكميات النفط المصدرة، وذلك للسعي بقدر الإمكان لإعادة الاستقرار للسوق، وذلك من خلال تخفيض الكميات المنتجة وبما يتناسب مع الطلب العالمي.
إن تحدّي انخفاض أسعار النفط وتوقع استمرار انخفاضه بشكل أكبر، حسب تقديرات بعض المؤسسات الدولية ذات الاهتمام، يمكن أن يتحول إلى فرصة حقيقية لدول المجلس للإسراع في الانتقال من الاقتصاد النفطي إلى الاقتصاد القائم على التصنيع، مستخدمة عناصر القوة الأخرى التي تمتلكها من موقع جغرافي متوسط، وإمكانيات الانتقال للطاقة البديلة، وتنوع في سوق العمل، إذ إن هذا الانخفاض يضع دول المجلس أمام تجربة حية لما قد يحصل مستقبلاً، عندما يتحول العالم إلى الاعتماد بشكل كلي على مصادر الطاقة المتجددة، وانخفاض اعتماده على النفط، أو عند نضوب النفط في أسوأ الأحوال، ويمنحها الفرصة وبشكل إجباري لإعادة تنظيم اقتصاداتها بشكل يتناسب مع السيناريوهات المستقبلية، التي طالما أرّقت المخططين وصناع القرار في دول المجلس.
أرسل تعليقك