في أرض زراعية محاطة بأشجار الصنوبر على مشارف مدينة الرقة؛ عثر فريق «الاستجابة الأولية» التابع لـ«مجلس الرقة المدني»، على مقبرة جماعية جديدة في قرية «الفخيخة» تضم رفات ما يصل إلى 3500 جثة، يعتقد أن تكون مجهولة الهوية وتعد الأكبر والأقدم، والتي بقيت شاهدة على تركة تنظيم «داعش» الإرهابي بعد حكم المنطقة قرابة ثلاث سنوات ونصف السنة متتالية بين يناير (كانون الثاني) 2014 وأكتوبر (تشرين الأول) 2017.
ومنذ تحرير الرقة إثر هجوم «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية، وبدعم من تحالف دولي بقيادة أميركا، كُشف عن تسع مقابر جماعية داخل مدينة الرقة، بما فيها مقبرة «البانوراما» التي أخرجت 900 جثة منها.
ولم ينتهِ خطر تنظيم داعش، حيث شنّ اعتداءات عدة في الرقة التي لا تزال آثار المعارك العنيفة من دمار وفوضى تطغى عليها رغم عودة عشرات آلاف السكان إليها. ولا يعني حسم المعركة في بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي انتهاء خطر التنظيم، في ظل قدرته على تحريك «خلايا نائمة» في المناطق الخارجة عن سيطرته.
في موقع المقبرة غطى أعضاء الفريق - وهم حفارون - أنوفهم وأفواههم بقطعة قماش طبية واقية، بسبب الروائح الكريهة والحشرات المنتشرة في المكان، يلبسون خوذاً برتقالية اللون ولباساً موحداً لونه أزرق داكن، ووسط أشواك جافة عالية وسنابل قمح ذهبية يقوم عمال الفريق بنبش قبر فردي غطي بكتلة إسمنت، وعلى عمق قدمين انتشلوا جثة متحللة لم يتبق منها سوى هيكل عظمي ملفوفة بقطعة قماش رمادية رطبة، قبل وضعها في أكياس بيضاء وزرقاء مخصصة للجثث.
كتب عامل على أحد الأكياس: «أشلاء رجل مجهول» – الفخيخة – 10 - 06 – 2019، وعثر الفريق على بطاقة كانت معلقة بالجثة، كتب في أعلاها لقب المقاتل المكنى بـ«أبو لقمان الماليزي» في إشارة إلى إن المقاتل يتحدر من دولة ماليزيا، دون الكشف عن اسمه الحقيقي، وذُكرت اسم الكتيبة التي كان ملتحقاً بها والكود الشخصي، وهو عبارة عن مجموعة أرقام تجاوزت 11 رقماً. تحتها مباشرة، كتب الرمز المالي وكان مؤلفاً من أرقام وفواصل، كما تم تحديد مكان العمل على شكل أرقام أيضاً، وفي أسفل البطاقة كتبت عبارة: «صالحة لمدة ثلاثة أشهر»، مرقمة بالتاريخ الهجري ويبدو أن المقاتل لم يكمل ثلاثة أشهر في صفوف التنظيم وقتل.
ورغم مرور عام وعشرة أشهر على هزيمة تنظيم «داعش» في الرقة، لا يزال إحصاء الجثث وإخراجها مستمراً مع انتشالها من «مقابر جماعية» أو من تحت الأنقاض والكتل الإسمنتية جراء المعارك العنيفة التي دارت داخل المدينة، التي كانت المعقل الرئيسي للتنظيم المتشدّد في سوريا قبل طردهم في أكتوبر 2017.
3560 مجهول الهوية
في موقع المقبرة انتشرت مئات السواتر الترابية على جانبي قطعة الأرض والتي تقدر مساحتها بنحو 10 هكتارات، تدل على قبور جماعية لأكثر من 700 جثة تم نبشها، ومن المرجح إنها عائدة لعناصر تنظيم «داعش» نفسه.
ومنذ تحرير مدينة الرقة إثر هجوم بري واسع نفذته «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية، وبدعم من تحالف دولي ضمّ 79 دولة غربية وعربية تقودها الولايات المتحدة الأميركية، كُشف عن تسع مقابر جماعية داخل مدينة الرقة الواقعة شمال سوريا، بما فيها مقبرة «البانورما» التي أخرج منها أكثر من 900 جثة منها، وانتهت الفِرق من العمل منها بداية العام الحالي.
أما مقبرة الفخيخة فبدأ العمل فيها بـ9 يناير الماضي، ولدى حديثه لـ«الشرق الأوسط»، يقول ياسر الخميس، قائد فريق «الاستجابة الأولية» من موقع المقبرة: «فوجئنا بالعدد الكبير للجثث المدفونة بهذه المقبرة، انتشلنا أكثر من 750 جثة بالقسم الأول فقط، وتم التعرف على 51 جثة سُلمت إلى ذويهم أصولاً بعد مطابقة المواصفات والتحاليل الطبية».
ويقع القسم الثاني من المقبرة بضاحية الفخيخة خلف معسكر الطلائع، بدأ الفريق العمل فيها بالعاشر من الشهر الحالي، ويرجح ياسر الخميس أن يصل العدد الكلي للمقبرة إلى أكثر من 3500 جثة، وبحسب شهادات أهالي الضاحية ممن يسكنون بالقرب منها؛ تعود ضحاياه للإعدامات الميدانية الجماعية التي كان يقوم بها عناصر التنظيم، وأضاف الخميس: «أغلب الذين دفنوا في هذه المقبرة جثث لعناصر التنظيم نفسه، إضافة إلى صحافيين وعمال إغاثة وكل من أعدم في ساحات الرقة».
ومنذ بداية شهر يناير 2018، يقوم الفريق بالعمل والبحث عن المقابر الجماعية في مدينة الرقة وضواحيها، ويتألف الفريق من عمال حفر ومحام وطبيبين شرعيين ومكتب توثيق وإحصاء ومكتب إعلام، ومن بين تسع مقابر جماعية انتشل الفريق 4550 جثة تم التعرف على 900 جثة سُلمت إلى ذويهم أصولاً، وهناك أربع مقابر جماعية ثانية ستعمل عليها الفرق خلال النصف الثاني من العام الحالي، والمقابر المتبقية هي: مقبرة «السحل» و«معيزيله» و«المنصورة» و«الحمرات»، التي تنتظر الكشف عنها ويرجح أن تكون للأشخاص الذين نفذت بحقهم إعدامات ميدانية.
ويسعى الفريق لتحديد هوية كل جثة رغم إمكاناته المتواضعة، ويتابع ياسر الخميس المتحدر من مدينة الرقة ليقول: «لدينا طبيب شرعي يسحب ثلاث عينات من كل جثة، تحفظ في غرفة مخصصة مزودة بسجل يوثق حالة الجثة وطريقة قتله ومكان دفنها»، مشيراً بأن فريق «الاستجابة الأولية» الذي يقوده قام بإنشاء خريطة دقيقة، وهي عبارة عن رسوم هندسية تشير الأسهم والنقاط والتواريخ إلى أماكن الجثث، وقيد كل جثة وعينتها وسجلها، لمساعدة الأهالي للتعرف عليها وإعادة دفنها.
غير أن فاطمة البالغة من العمر (55 سنة) قضت أياماً من الانتظار عند مقبرة الفخيخة الجماعية في مدينة الرقة أملاً بمعرفة مصير زوجها، والذي كان مقاتلاً في صفوف التنظيم فقد أثره بعد انتهاء المعركة هناك، لكنها لم تستسلم للروايات على مقتله؛ إذ حاولت البحث عن طريق أقارب لها، في باقي المناطق التي بقيت خاضعة لسيطرة التنظيم حتى أعلنت قوات التحالف الدولي في نهاية مارس (آذار) الماضي القضاء عسكريا وجغرافيا على خلافته المزعومة.
وبصوت خافت يكاد يفهم وأسئلة كثيرة وعلامات استفهام ارتسمت على وجهها المليء بالتجاعيد، نقلت فاطمة المنحدرة من مدينة حلب إنها وللمرة الثالثة منذ بداية العام الحالي تزور مدينة الرقة للبحث عن زوجها، وقالت: «عندما يعلنون الكشف عن مقبرة جماعية جديدة أتي إلى هنا على أمل وجود جثته أو أي معلومة عن مصيره، منذ سنوات وقلبي مفطور لمعرفة مصيره»، ليتسنى لها دفنه بصورة لائقة ويكون له قبر وشاهد.
وتعد عملية استخراج وتحليل بقايا الهياكل العظمية من المقابر الجماعية عملية معقدة، تتطلب خبرة عالية في جمع المعلومات وقدرة كافية على إجراء الحفريات، ومهارات في التعرف على الجثث وتحديد سبب الوفاة، وهي من بين أبرز التحديات التي تواجه الفرق الميدانية، ووصف ياسر الخميس ملف المقابر الجماعية بـ«المعقد للغاية»، ويزيد: «يومياً يستقبل مكتبنا أهالي الرقة ومن خارج المحافظة يسألون عن مصير أبنائهم»، فمنهم من مات تحت الأنقاض، ومنهم من لقي حتفهم بالألغام أو المفخخات التي زرعها التنظيم: «لكن النسبة الأكبر قتلهم عناصر التنظيم ودفنوا في مقابر جماعية، ونحاول جاهدين الكشف عن مصير كل مفقود»، على حد تعبيره.
جثث الأجانب
تقع مدينة الرقة على الضفة الشمالية لنهر الفرات وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كلم، كان يسكنها قبل اندلاع الحراك المناهض لنظام الحكم ربيع 2011؛ نحو 300 ألف نسمة غالبيتهم من العرب السنة إلى جانب أكراد ومسيحيين وتركمان، فرّ معظمهم بعد سيطرة التنظيم المتطرف على المدينة.
وعمدَ التنظيم إلى احتجاز وقتل آلاف الأشخاص خلال سيطرته على المنطقة، ويتهم سكان الرقة عناصر «داعش» بتنفيذ عمليات الإعدامات ودفنهم في مقابر جماعية؛ إذ تقدر السلطات المحلية مقتل وفقدان آلاف الأشخاص خلال معركة استعادة المدينة تم دفن كثيرين منهم على عجل، ومنهم من بقيت جثثهم تحت الأنقاض.
والمقبرة الجماعية عبارة عن مكان يحتوي على جثث عدة تكون غالباً لأشخاص غير معروفي الهوية، دفن صاحبها في قبر لا يحمل شاهداً أو أي إشارة تدل على اسمه أو هويته الحقيقية، بحسب الدكتور محمود حاج حسن (60 سنة) المتحدر من الرقة، والذي يعمل طبيباً شرعياً لدى فريق «الاستجابة الأولية».
يشرح آلية عمله التي تبدأ مع إخراج الجثة، وتمييزها هل هي أشلاء أم جثة كاملة، متحللة أم مجموعة عظام، يحدد جنسها ذكراً أم أنثى، وهل هي عائدة لطفل أم لبالغ، كما تظهر ما إذا كان لمقاتل أم مدني، ويقول: «كما يتم تحديد جنسيته، فالآسيوي مثلاً أو الأوروبي أتعرف عليهم من خلال ملامح الجثة»، توقف لحظات عن الكلام وهو يشاهد عدداً من الجثث المستخرجة حديثاً ليضيف بحسرة: «لم أكن أتوقع حجم الدمار الهائل لمدينتي، وهذه الأعداد الكبيرة من الجثث والأشلاء معظمها مجهولة الهوية».
وأشار الطبيب محمود بأن أغلب جثث المقبرة مجهولة الهوية عائدة لمقاتلي التنظيم يتحدرون من جنسيات غربية وأوروبية، وقال: «أشاهد معها جعبة أو حزاماً ناسفاً وحذاءً عسكرياً، ويكون لباسه ميدانياً تدل على أنها كانت لمقاتل».
وتعتبر حالة التأكد من هوية الجثة وصاحبها عملية في غاية الصعوبة نظراً لغياب وجود تقنيات حديثة، وكثرة العدد حيث تجاوزت أعداد الجثث أكثر من 4500 جثة، ويقوم الأهالي بتسلم رفاة الجثث التي يتعرفون عليها سواء من ملابسهم أو علامات فارقة على أجسادهم، كحال السيدة عاكفة البالغة من العمر (40 سنة) والتي قطعت مسافة 385 كيلومتراً إلى مدية الرقة شمالاً قادمة من العاصمة السورية دمشق، للتأكد من جثث زوجها وابنها وزوجته والذين فضلوا البقاء بالرقة للعيش في كنف الخلافة المزعومة التي أعلن عنها تنظيم «داعش» المتطرف بداية 2014، كما نقلت المرأة المتحدرة من منطقة الحجر الأسود جنوب دمشق.
عاكفة هربت من الرقة بداية معركة الرقة صيف 2017، بعد إصرار زوجها وابنه وقرارهما القتال حتى النهاية، وأجبرا زوجة ابنه على البقاء معهما في المنزل، والسيدة التي كانت تلبس عباءة سوداء اللون غطت شعرها بوشاح أبيض بدت عليها علامات التقدم في السن على الرغم أنها ببداية عقدها الرابع، تأكدت من وجود جثث ذويها في مقبرة الفخيخة وقالت: «لقد تعرفت عليهم من خلال الملابس وعلامات في جسد زوجي وابني، أما زوجة ابني فقتلت بالمنزل الذي كانت تقيم فيه بعد تأكيد فرق الانتشال إخراج جثتها من تحت الأنقاض»، وقررت دفنهم في مقبرة الفخيخة، وأضافت بحسرة: «لا أملك المال الكافي لنقلهم إلى دمشق وشراء مقابر هناك وإعادة دفنهم، دفنتهم هنا وأشعر براحة لأنني تأكدت من موتهم».
ويرافق المجموعات الميدانية محامي تكون مهمته في غاية الدقة، يقوم بتسجيل التفاصيل الأساسية حول الجثث التي يتم العثور عليها وذكر أسباب الوفاة المحتملة، والإصابات والجنس ولون الشعر والطول واللباس والعمر التقريبي، حيث كان بالإمكان تحديدها بناءً على تقييم بصري للرفات التي يتم استخراجها دون استخدام أجهزة حديثة ومتطورة.
يتولى المهمة المحامي محمد (45 سنة) المتحدر من مدينة الرقة والذي فقد الكثر من أقربائه خلال المعارك الدائرة في مسقط رأسه، حيث قتل بعضهم بطلقات قناص عناصر التنظيم عندما حاولوا الهرب بعد احتدام المعارك منتصف 2017.
محمد كان يمتلك مكتب محاماة وعمل بشكل تطوعي للدفاع عن المتظاهرين السلميين أمام المحاكم، أما اليوم يعمل مستشاراً قانونياً في فريق الاستجابة ولا يخفي صعوبة مهمته، ليقول: «أتابع ميدانياً إخراج الجثث وتوثيقها وإرسال المعلومات إلى مكتب التوثيق والإحصاء، ثم تكفين الجثة ودفنها في مقبرة قريبة من الموقع على الطريقة الإسلامية».
أثناء وجوده في المقبرة كتب على استمارة خاصة رقم الجثة وتاريخ استخراجها وكل ما هو موجود معها، وأثناء الحديث معه في الموقع الميداني بمقبرة الفخيخة، أخرج الفريق جثة ملفوفة ببطانية رمادية اللون كانت رطبة كونها مدفونة تحت الأرض، ولفت قائلاً: «أسجل بشكل دقيق كل ما يقوله الطبيب الشرعي وكل ما هو موجود مع الجثة».
100 جثة محترقة
يروي عمر (52 سنة) والد الطفلة ملك التي قتلت بشظايا صاروخ أثناء قصف طيران التحالف الدولي على مسقط رأسها بيونيو (حزيران) 2017، كيف بقيت جثتها تحت ركام بيت العائلة الكائن في شارع هشام عبد الملك وسط الرقة، وكان عمرها آنذاك ثمانية أعوام، ولا يزال المنزل منهاراً بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على استعادة المنطقة، لكنهم انتشلوا جثتها ودفنها من جديد.
تسكن العائلة في البيت المواجه لكوم الركام، وعندما يقفون في الشرفة يريان المبنى المنهار الذي أصبح قبراً لها، وكلما ينطق باسمها تملأ الدموع عينيه دون أن يتمالك نفسه ويسود الصمت على المكان، وبكلمات مبعثرة ووجه حزين وعينين اغرورقتا بالدموع، قال عمر: «سيرة ملك تذكرنا بنيران الحرب التي لم تنتهِ بعد، فقدنا قطعة من الروح فكيف ننسى؟!، الله يصبرنا على مصابنا». ومنذ تأسيس فريق «الاستجابة الأولية» بداية 2018 انتشلوا أكثر من 1500 جثة من تحت الأنقاض والركام، وكشفوا مقابر جماعية عدة داخل مدينة الرقة وفي ضواحيها، منها مقبرة ملعب الرشيد وانتشلوا أكثر من 500 جثة، أما في محيط الجامع القديم كان مدفون نحو 80 جثة، وفي مقبرة التاج الواقعة بالقرب من حديقة الحيوانات جنوبي الرقة انتشلت رفات 380 جثة، أما حدائق الرقة فضمت ما يقارب 100 جثة، والرقم نفسه انتشل من منازل عربية، ومن مقبرة البانورما انتشلت أكثر من 900 جثة، والقسم الأول من مقبرة الفخيخة أخرجوا 750 رفات معظمها مجهولة الهوية.
لؤي المتحدر من مدينة الرقة شاب ثلاثيني أنهى دراسة الهندسة المدنية أواخر 2010، وعوضاً من العمل بمجال تخصصه في مجال تخطيط البناء ورسم وتصميم المنازل السكنية، قرر العمل مع فريق «الاستجابة الأولية» وباتت لديه خبرة كافية في توثيق وإحصاء الجثث وتسجيل البيانات على الحاسوب المركزي للفريق، كما يقوم بإدخال المعلومات المرسلة من الفرق الميدانية من المقبرة لتشكيل أوسع قاعدة بيانات على الإطلاق.
وعن عمله يقول لؤي: «قمنا بتصميم استمارة خاصة لهذا الغرض، تشمل بيانات حالة الجثة وعمرها وتحديد الجنس والملابس التي كان يرتديها، وتحديد حالة الوفاة، وأخيراً بيانات دفن الجثة ومكانها والجهة التي قامت بالدفن»، منوهاً بأن معظم الجثث مجهولة الهوية «هي لمقاتلي (داعش) أنفسهم أعدموا رمياً بالرصاص أو قتلوا عمداً، وتم دفنهم دون وجود ذويهم أو أسرهم؛ كونها غير معروفة»، وكشف عن أن الفريق انتشل أكثر من 100 جثة كانت متعفنة أو محترقة ولم يتم التعرف على جنسها أو عمرها.
وأنشأ الفريق مقبرتين لدفن الجثث التي يتم إخراجها من المقابر الجماعية، إحداها مقبرة «تل البيعة» الواقعة شمال شرقي الرقة، التي باتت تعرف باسم مقبرة «تل الشهداء» ودفن فيها معظم الذين انتشلت جثثهم منذ عمل الفريق، أما المقبرة الأخرى، وبعد اكتشاف مقبرة الفخيخة ونظراً لزيادة العدد فقد أنشاها الفريق بالقرب من «تلة الفخيخة».
بعد أن ينتهي الطفل أحمد البالغ من العمر 12 عاماً، صفوفه المدرسية، يتوجّه إلى مقبرة تل البيعة في مدينة الرقة ليبدأ بحفر قبر ورشها بالماء؛ أملاً في أن يحصل من أقرباء الموتى على مقابل مادي يعيل به عائلته. ويبدأ نهار الفتى النحيل باكراً في المدرسة لتقديم الامتحانات ثم يأتي للعمل بالمقبرة ولا ينتهي إلا عند حلول المغرب.
يتجول لساعات حافي القدمين رغم حرارة الطقس بين قبور معظمها من دون شواهد، ويسير فوق الأحجار وقطع الإسمنت وهو يحمل مجرافاً كبيراً ودلواً من الماء، لينظف الأضرحة ويسقي أيضاً العشب والزهور، ويقول: «عندما تأتي عائلة ما لدفن فقيدهم يبحثون عن مكان مناسب لإعادة دفنه، أكون قد حفرت القبر ويدفنونها في مكانها الجديد ويعطونني لقاء ذلك مبلغاً من المال».
أحمد اضطرّ إلى العمل في المقبرة بعدما خسر والده وظيفته ودخله الشهري بسبب الحرب الدائرة في بلده منذ سنوات، في ظل غياب فرص عمل بديلة للحصول على وظيفة مناسبة وغياب مؤسسات الدولة منذ ربيع 2013. وأضاف مبتسماً: «المهم أنني أعمل وأحصل على مال، مستقبلاً سأعمل في مجال آخر غير حفار قبور».
حملة للكشف عن المختطفين
كان تنظيم «داعش» قد أعلن في يناير 2014 السيطرة على مساحات واسعة في سوريا والعراق المجاور عادلت مساحتها بريطانيا في ذروة قوته منتصف 2015، وعمدَ عناصره إلى بثّ الشعور بالرعب من خلال نشر صور وأفلام مروعة لعمليات القتل التي نفذها عناصره، مثل مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً بشهر فبراير (شباط) 2015، وتعليق رؤوس جثث مئات الجنود السوريين - أشباه عراة – في دوار النعيم وسط الرقة والذين أُسِروا في مطار الطبقة العسكري بيوليو (تموز) 2014، إلى جانب تصفية وقتل عشرات المواطنين الأجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إغاثة.
وتحت عنوان «اكشفوا مصير ضحايا (داعش) المفقودين»، أطلقت الكثير من الأسر حملة بدعم من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، للكشف عن مصير أبنائهم الذين فُقدوا وكانوا محتجزين لدى تنظيم «داعش» عندما كان يسيطر على أجزاء واسعة من سوريا، وهذه العائلات لا تزال تحاول الاستعلام عن مصير ذويهم.
يدير الحملة الناشط خليل الحاج صالح المتحدر من مدينة الرقة، فقد شقيقه فراس الحاج صالح منذ 6 سنوات، اختطفه عناصر التنظيم ولا يعلمون مصيره حتى تاريخه، وعن آلية الحملة وأهدافها يقول: «آلية العمل تعتمد الضغط على الإعلام والمسار القانوني بمساعدة محامين سوريين وأجانب، إضافة إلى المشورة التي تقدمها منظمات حقوقية دولية للحصول على معلومات من قوات التحالف الدولي للمساعدة بالكشف عن مصير المختطفين».
وأعربت برايانكا موتابارثي، مديرة قسم الطوارئ في منظمة «هيومن رايتس ووتش»، عن آسفها لبقاء العائلات الذين قتلوا أو اختطفوا على يد تنظيم «داعش» دون تحديد مصير أحبائها، وطالبت أن تصل إلى العدالة في تلك الجرائم، منوهة إلى الحفاظ على الأدلة من هذه المقابر الجماعية التي تعتبر جزءاً أساسياً من القضية، وأضافت: «تقوم المجموعات المحلية بكل ما يمكنها فعله، لكنها تحتاج إلى دعم لتنفيذ أعمالها الصعبة والخطرة بطريقة تدعم حق العائلات في الحصول على معلومات دقيقة عن القتلى».
بدوره، يرى المحامي أنور البني، مدير «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، أن المقابر الجماعية التي عثر عليها في مدينة الرقة وتضم آلاف الجثث، «يجب على دول التحالف تقديم السبل اللازمة لكشف هويات أصحاب الجثث مثل تزويدهم بالأطباء الشرعيين والخبراء والاختصاصيين في هذا المجال»، وقال: «إن إحصائية المحتجزين لدى التنظيم بلغت 7600، بينهم نحو ألفي شخص موثقين بالاسم».
من ناحيتها، طالبت برايانكا موتابارثي «المنظمات الدولية التي لديها خبرة بالطب الشرعي بتوفير الدعم الفني، وإرسال خبراء لدعم عمليات تحديد الهوية واستخراج الجثث، وينبغي على السلطات المحلية تسهيل العملية قدر الإمكان».
ومُني تنظيم «داعش» بخسائر ميدانية كبرى خلال العامين الأخيرين، على وقع هجمات شنّتها أطراف عدة، أبرزها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وتكبد أكبر هزائمه العسكرية صيف عام 2017 عندما فقد السيطرة على مدينة الموصل بالعراق ومدينة الرقة في سوريا، أبرز معاقله سابقاً.
ولم ينتهِ خطر تنظيم «داعش» المتطرف، حيث شنّ اعتداءات عدة في مدينة الرقة بعد طرده منها، وهي التي لا تزال آثار المعارك العنيفة من دمار وفوضى تطغى عليها رغم عودة عشرات آلاف السكان إليها، ولا يعني البتة حسم المعركة في بلدة الباغوز في مارس الماضي انتهاء خطر التنظيم، في ظل قدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته واستمرار وجوده في البادية السورية المترامية الأطراف، فعناصر «داعش» يبسطون السيطرة على جيب صحراوي إلى الغرب من نهر الفرات، تحيط به القوات النظامية الموالية للأسد، وميليشيات إيرانية والحشد الشعبي من الجهة العراقية.
أرسل تعليقك