في قطاع غزة ،بمجرد أن تدخل احدى الصيدليات للحصول على دواء قيل لك أن تشتريه على نفقتك الخاصة بسبب عدم توفره في مستشفيات القطاع ، لتفاجأ بأن هذا الدواء مكتوب عليه "مباع لوزارة الصحة"، حتى تعي تماماً ماذا يحدث للعلاج المرسل من وزارة الصحة في رام الله لغزة بينما يتم وفي جهر النهار بيعه للقطاع الخاص من الصيدليات.
فالمريض الذي يعاني ليس فقط ظروفاً صحية صعبة بل ظروفاً اقتصادية أصعب على وقع ما يمر به القطاع من أحوال كارثية على جميع الصعد، ليس بمقدوره تحمل مأساة جديدة تتعلق بحاجته الملحة للعلاج المرسل بالأساس بالمجان من وزارة الصحة في رام الله إلى غزة والذي يتم بيعه للقطاع الخاص ليحرم منه من هو به أولى.
حالات عديدة تحدثت عن معاناتها جراء ما يحدث من بيع للدواء، البعض منها تم مقابلته والاطلاع على تفاصيل معاناته والبعض الآخر قد قرر الخروج عن صمته على مواقع التواصل الاجتماعي لفضح ما يحدث مطالبين الحكومة في غزة لبيان موقفها مما يحدث من انتهاك لحقوق المرضى في غزة.
هذه المعاناة تأتي في ظل نقص الخدمات الصحية التي تقدم لمرضى السرطان في غزة تحديداً جراء العجز في أدوية العلاج الكيماوي لأسباب تتناقض فيها الاتهامات ما بين وزارة الصحة في غزة والضفة الغربية ،بحيث يرجع المسئولون في غزة الأسباب الى تذبذب توريد الأدوية من قبل الحكومة الفلسطينية في رام الله ،وهو ما تنفيه وزارة الصحة في رام الله متهمة جهاز الصحة الذي تديره حماس بافتعال الأزمة بل وسرقة العلاج المورد لها للقطاع الخاص وما يتنج عن ذلك من ارتفاع تكلفة الحصول على العلاج للمرضى خصوصا ذوي الأمراض المزمنة.
أين يذهب الدواء؟
تقول احدى النساء ضمن تقرير تحليلي أعدته مؤسسة مفتاح بعنوان "انتهاكات حقوق النساء والفتيات الفلسطينيات الاجتماعية والأمنية في قطاع غزة أثناء الانقسام": "زوجي مريض بفيروس الكبد الوبائي درجة b ويعاني تليف في لكبد والطحال، لديه قرار رئيس يستطيع من خلاله تغطية مصاريف العلاج اللازمة له من وزارة الصحة".
وتضيف: "في كل مرة أذهب لطلب العلاج يكون جواب المستشفى بغزة أن العلاج غير متوفر فأضطر لشرائه من الصيدلية أو مستشفى خاص وفي كل مرة أجد مكتوب على العلاج "مباع لوزارة الصحة الفلسطينية" وهذا يعني أن العلاج متوفر لكن تم بيعه للقطاع الخاص".
"في كل مرة يتأخر فيها العلاج عن زوجي أتكلف على الأقل مبلغ 2000 دولار كدين لأنه علاجه مكلف جداً وأنا وعائلتي تعبنا من المصاريف وتكاليف العلاج"، وفقاً لشهادتها.
أما المواطن رامي أبو شاويش (37 عاماً) فقد كتب عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" قائلاً: "سرقة قوت الغلابا وفرض مزيد من الضرائب قلنا ماشي، لكن تصل لسرقة دواء الحالات المرضية المزمنة!
ويتحدث عن تفاصيل ما حدث معه حين ذهب لصرف العلاج فيكتب: "حين توجهت للصيدلية في العيادة الحكومية طالباً صرف العلاج الشهري أخبروني بأنه لا يوجد سوى علبة واحدة وحين سألت عن عدد الحالات أجابوا بأنها عشر بينما يصلهم فقط علبة واحدة من المستودع فسألت وهل تكفي العلبة الواحدة للعشر حالات فقالوا من يأتي أولاً يحصل عليها".
ويضيف: "تخيل عشر حالات مسجلة كشلل دماغي في العيادة الحكومية يصرف لها علبة دواء واحدة من نوع Rivotril drop.x2 وهنا السؤال الأهم: أين يذهب الدواء؟ رغم أنه مرسل من رام الله مجاناً ولدي تأمين صحي ساري المفعول".
وجاءت التعليقات والردود من المعلقين كالتالي: "روح المستشفيات الخاصة بتلاقيه موجود وعاملين عليه عرض سعر50% تخفيضات".
وفي حالة ثالثة يقول الأربعوني طه عمران: "ابني يحتاج شهرياً دواء Tegretol وكلما ذهبت للحصول عليه من المستوصف الحكومي يخبروني بأن الدواء مقطوع وغير متوفر وكوني عاطل عن العمل ولا أستطيع شراؤه تمكنت من الحصول عليه من مستوصف الوكالة".
ويسترسل بالقول: "أين يذهب الدواء ونحن نعلم أنه يأتي لحالات مثل ابني بالمجان من رام الله؟ هل يتم سرقته وحرمان المئات من علاج قد يودي بهم إلى الموت أو الجنون؟ أم يتم بيعه والاستفادة منه على حساب آلامنا؟".
صيادلة: تجاوزات فردية ومسروقات
يقول أحد الصيادلة معلقاً على الأمر: "من يتعامل في هذه التجارة هي صيدليات محدودة ومعروفة كونها تتبع لأشخاص مسنودين تنظيمياً وذوي علاقات قوية بمستشفيات القطاع أو عاملين في وزارة الصحة بغزة".
ويضيف: "هذه الأدوية لا يتم بيعها من قبل وزارة الصحة بل تُسرب كنوع من المسروقات وتشمل أدوية الأمراض المزمنة كالسرطان ومسكنات ألم ومضادات حيوية".
ويؤكد الصيدلي محمد عنات بأن 98% مما يتواجد من هذه الأدوية في الصيدليات هي مسروقات نتيجة تجاوزات فردية دون علم الوزارة بها كما أن هناك مواطنين يقوموا بيع الدواء المصروف لهم بأسعار زهيدة للصيدليات بينما تقوم الأخيرة ببيعه بأسعار السوق".
وفي سؤال حول حملات التفتيش التي تطالهم كصيدليات يقول عنات: "نعم حملات التفتيش متواجدة على الصيدليات على مدار الساعة وأي نوع من الدواء يخالف المواصفات يتم ضبطه ومصادرته الأمر الذي قد يصل لإغلاق الصيدلية".
حكومة غزة ترد
يعلق الدكتور منير البرش مدير عام الصيادلة في وزارة الصحة بغزة: "الواقع الدوائي في غزة صعب جداً وهناك عجز كبير في الأدوية خاصة أدوية السرطان إذ تبلغ نسبة العجز 65%" كما أن نسبة العجز والنقص في الادوية لدى وزارة الصحة بغزة وصلت إلى 45%".
وردا على سؤال مراسلة الجديد الفلسطيني حول تواجد أدوية وزارة الصحة المرسلة من رام الله في صيدليات القطاع الخاص يقول البرش: "هي حالات فردية نتيجة حالة الفقر العام التي يعيشها المواطن في قطاع غزة والتي تضطره على بيع الدواء المستلم مجاناً من وزارة الصحة وهنا يقع الجرم على صاحب الصيدلية الذي يشتريه".
ويضيف: "من خلال فرق التفتيش والرقابة التابعة للوزارة فإن أي صيدلية يتواجد فيها دواء مباع لوزارة الصحة يتم مصادرة الدواء وقد يصل الأمر إلى إغلاق الصيدلية".
"أما على مستوى الوزارة فعلى مدار 12 عام من إدارتي لهذا الملف لم تسجل حادثة واحدة يكون فيها مسؤول حكومي متورط في هذا التجاوز"، وفقاً لحديثه.
يذكر أن غزة تحتاج سنوياً 40 مليون دولار من الدواء والمستلزمات الطبية ووفقاً لتقرير وزارة الصحة فيما يتعلق بالواقع الدوائي لعام 2018 فإن حكومة الوفاق لم ترسل لقطاع غزة سوى 13 مليون دولار من توريدات الأدوية.
ربح غير قانوني
وهنا حاولت مراسلة الجديد الفلسطيني البحث فيما أثاره مدير عام الصيادلة في الصحة، فإن كانت الوزارة تعاني من عجزٍ في الأدوية، كيف وصلت تلك الدوية إلى الصيدليات؟ وكيف تُباع وهي بالأساس متوفرة بالمجان؟
يقول المواطن الثلاثيني أنور غالي: "أخي يعاني من اضطراباتٍ نفسيةٍ، ويتم صرف الدواء النفسي عبر احدى المؤسسات الخيرية فيقوم ببيعها خاصةً وأنه شفى من المرض".
ويضيف: "هناك اتفاق بين أخي ومالك الصيدلية على شراء هذا الدواء بسعر منخفض عن السعر الأصلي بينما يقوم الصيدلي ببيعه بسعره الأصلي مما يحقق ربحاً للطرفين معاً بشكل غير قانوني".
هذا يوضح أن بعض الصيدليات لا تلتزم قانونيًّا بما جاء في قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004، الخاص بنظام مزاولة مهنة الصيدلة الصادر سنة 1998، في مادته 43، والذي ينص على: "يحظر على المؤسسة الصيدلانية شراء الأدوية إلا من الجهة المرخص لها ببيعها كما يحظر عليه بيع الأدوية التي انتهت صلاحيتها أو العينات الطبية المجانية أو الأدوية التالفة أو المهربة أو المباعة لوزارة الصحة أو الخدمات الطبية العسكرية أو وكالة الغوث، أو تبرعات الأدوية الواردة إلى فلسطين".
نفي وزارة الصحة حول وجود تجاوزات من قبل مسؤولين حكوميين في هذا الملف ، وإيقاع المسؤولية على المواطنين أنفسهم رغم أن هذه الحالات موجودة فعليا، لا يغلق الباب ولا يضع حدا للتساؤلات في هذا الملف .
و أمام مايعيشه قطاع غزة من حالة من العوز والفقر فإن هذا الملف بتجاوزاته سواء على مستوى المريض أو المسؤول معلقاً دون حل فالمواطن تدفعه الظروف لبيع ما يمكن بيعه لتوفير مصاريف حياته اليومية، والمسؤول قد يغريه المنصب لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أرباح خاصةً في ظل قلة الإمكانيات التي قد تشكل تربة خصبة لهذه التجاوزات.
أرسل تعليقك