جاء إعلان الدول العربية الأربع الداعية إلى مكافحة التطرف، السعودية ومصر والإمارات والبحرين، بتصنيف كل من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي، وفرعه المجلس الإسلامي العالمي "مساع"، ضمن الكيانات المتطرفة، بمثابة ضربة قاصمة، وتمزيق لقلب المشروع القطري في الجزيرة العربية، والمنطقة العربية عمومًا. وترجع جذور نشأة هذا الاتحاد إلى عام 2003، حينما قررت جماعة الإخوان في قطر حل نفسها،
للعمل على صناعة قلب مرجعي مشبع بالعلم الشرعي الإسلامي، متجسدًا في الاتحاد برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي، وتمويل من الدوحة. وفتح الاتحاد أبوابه في 2004، بهدف استبدال التنظيم بـ"تيار" إسلامي عابر للقارات والمحيطات"، وهكذا نشأ التيار وفي صفوفه أفراد من مشارب مختلفة.
- القلب الاصطناعي وتنشيط المجتمع المدني
الكشف عن هذا "القلب الاصطناعي" جاء في مقال منشور عام 2007، للكاتب "الإسلاموي" الكويتي عبد الله النفيسي، بعنوان: "الحالة الإسلامية في قطر"، متحدثًا عن دراسة غير منشورة لجماعة الإخوان القطرية، خلصت إلى قرار حل التنظيم في 1999، والتحول إلى تيار فكري إسلامي يخدم القضايا التربوية والفكرية في عموم المجتمع.
- محمد سرور ويوسف القرضاوي
ووفقًا لما جاء في "الدراسة الإخوانية"، واستقاه النفيسي من شاب قطري مُطلع على مضمونها، ومساهم فيها، فإن الجزيرة العربية في احتياج إلى قلب مرجعي مشبع بالعلم الشرعي الإسلامي، وفكر استراتيجي وفهم للواقع المحلي والإقليمي والعالمي، وأنه لو توفر هذا القلب المرجعي، فردًا أو مجموعةً، وتوفرت له المراكز والمؤسسات، لاستطاع أن يشيع ما هو مطلوب من التوجيه المناسب لحركة المجتمع في الجزيرة العربية، إضافة إلى أن تنشيط المجتمع المدني سيؤدي إلى رفع مستوى الوعي، بما ينعكس على النشاط السياسي والاجتماعي والتعليمي والحقوقي في مجتمع الجزيرة العربية.
- أسامة بن لادن ورسائل أبوت آباد
وبدوره لم يكن زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، بعيدًا عن هذه الفكرة، فقد تطرق إلى مشروع القلب الأيديولوجي الاصطناعي، في رسائل أبوت آباد، ورشح قطر لتنفيذه، إلا أنه دعا إلى استنساخ قلب آخر يتلاءم مع المعطيات المرحلية الجديدة التي فرضتها الثورات، وهو ما أكدته وثيقة مهمة تشير إلى اعتماد تنظيم القاعدة، وفي العام ذاته، سياسة الخروج من ضيق (التنظيم) إلى رحاب "التيار".
- الجامعة الجهادية العالمية والرد التاريخي
وفي وثيقة مؤرخة في يونيو / حزيران 2004، ومعنونة وعنوانها "القاعدة قبل وبعد المقرن"، كتب لويس عطية الله، ناعيًا عبد العزيز المقرن، قائلاً: "إن كثيرًا من منظري الغرب ومحلليه السياسيين اعترفوا بأن القاعدة تحولت من تنظيم إلى حركة جماهيرية، يقتنع الناس بأفكارها ويتبنونها حتى ولو لم يكن ثمة ارتباط تنظيمي بينهم وبين القاعدة كمنظمة"، واستشهد عطية الله بما خلص إليه النفيسي، مضيفًا: "القاعدة كحركة تختلف عنها كتنظيم، وكما يقول الدكتور النفيسي، فالقاعدة هي الرد التاريخي من الأمة الإسلامية".
- عبد الله النفيسي - من تنظيم هرمي إلى تيار شبكي
التحول إذن من تنظيم هرمي يتأثر بفقدان وخسارة قياداته، إلى تيار شبكي، هو خلاصة ما توصل إليه لويس عطية الله، مع تأكيده أن القاعدة ليست منظمة معزولة أو حزبًا تنظيميًا محددا، بل هي حركة تمارس دور الجامعة الجهادية العالمية، وهكذا يتبين أن القاعدة والإخوان توصلا إلى ضرورة حل التنظيم لكل منهما، ولأسباب داخلية متطابقة، أهمها البعد الأمني الذي تسبب في خسارة الكوادر وإضعاف النشاط.
- قلب إخواني ودعاية لمشروع "إسلاموي"
مع قلب إخواني "إسلاموي"، وأطراف مُعسكَرة، وأخرى إعلامية ودعائية، انطلق المشروع الإسلاموي الكبير مع أولى الثورات في تونس، فكانت بمثابة الرزق للمجاهدين، وفق وصف زعيم القاعدة، قائلاً: "الحمد لله، لقد كانت هذه الثورات رزقًا وافرًا للأمة عامة وللمجاهدين خاصة".
- الراديكالي والليبرالي وأصحاب القبعات والعمائم
لذا لم يكن غريبًا، مع أولى انبعاثات ما سُمي بـ"الربيع العربي"، هذا الاستقطاب الأيديولوجي الجامع بين الإسلامي الراديكالي (العنيف)، واليساري، أو الليبرالي، مع أصحاب القبعات والعمائم، بكل ما بينهم من تناقض أيديولوجي. وخلافًا لما بشر به حينها فواز جرجس، الأكاديمي اللبناني، من مستقبل جديد للديمقراطية في دول الثورات العربية، وإعلان وفاة الأصوليات المتطرفة، كان بن لادن يدعو من مخبئه إلى القيادة والتصدر، ولكن من خلف حجاب، بأن على الشباب البادئين تجنب الإشادة بالقاعدة تصريحًا أو تلميحًا. وأضاف بن لادن: "لا يصح أن نبقى منهمكين في جبهة أفغانستان، التي تشهد انتشارًا واسعًا لحركة مجاهدة، بينما قلب العالم الإسلامي يشهد ثورات شعبية شاملة، بل يجب علينا زيادة الانتشار الإعلامي المبرمج والموجه، وأن تكون جهودنا في توجيه الأمة مدروسة، ولها خطة محددة نتشاور جميعًا عليها، فالمرحلة خطيرة جدًا، ولا تحتمل التباين بين توجهاتنا".
واستطرد بن لادن، قائلاً: "ومبدئيًا، فإن أهم خطوات المرحلة المقبلة هي تشجيع الشعوب التي لم تثر بعد، للخروج على الحكام، فيتم تركيز السهام على إسقاط الحكام دون الحديث عن المسائل الخلافية"، داعيًا إلى استنفار جميع الطاقات التي لديها قدرات بيانية نثرًا أو شعرًا، مرئيًا أو مسموعًا أو مقروءًا، وتفرغها تمامًا لتوجيه شباب الأمة، وإرشادهم"، وآمرًا بترك إدارة العمل في أفغانستان ووزيرستان للقيادات الإدارية والميدانية، ومناديًا: "أسرعوا في ترتيب طريق آمن لخروجكم في يوم غائم من المناطق التي أنتم فيها، لتتيسر لكم الأجواء المهيأة للقيام بالواجب السابق".
وتزامنًا مع حركة انتقال عناصر القاعدة والتنظيمات الراديكالية المسلحة الموالية إلى قطر وإيران، دعا زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، إلى انشاء المجلس الثوري بغرض التوجيه والإدارة من قبل مرشدين، كعبد الله النفيسي وحامد العلي وعبد الله المالكي وحاكم المطيري، إلى جانب توجيه بعض الإعلام الغربي الناطق بالإنجليزية، ومن بينهم روبرت فيسك.
والهدف من المجلس الثوري، وفقًا لوثائق بن لادن، هو عدم ظهور القاعدة على السطح، إذ لم يخطر بباله تأزم الأمور في حواضن القاعدة، وفقدان القدرة على الكلام، وفق كلماته. وقال بن لادن: "وجود المجلس الثوري في غاية الأهمية، لتوعية الناس قبل الثورة، ومع انتهائها، يخمل الناس نحو الوحدة، ويكون المجلس بمثابة حكومة مع مرور الوقت، ونواة لقيام دولة إسلامية"، موجهًا بضم الأحمري والنفيسي وحامد العلي للمجلس، والتشاور معهم. واستكمل بن لادن، كاشفًا عن الدور القطري، إذ قال: "والحمد لله قطر تستطيع القيام بهذه المهمة، ويكون خارج قطر (يقصد المجلس الثوري)، فالحمل ثقيل، فهي (قطر يمكن أن تتحمل التكاليف والإعداد والتشاور، وهي تبنت الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بطريقة غير مباشرة".
وفي تدوينة بعنوان "مشروع إعلامي متكامل السحاب"، ضمن وثائق بن لادن، قال: "الشريعة هي الحاكمة، من محمود له رسائل نطبعها ونُطلِع عليها يوسف الأحمد وعبد الله المالكي"، وانتقد جهود بعض أفراد التنظيم، في عدم لياقتها بالتنظيم. وقال في موضع آخر من التدوينة: "ينبغي أن يكون لدينا تصور عام، وقلنا إن هذا الظرف لا يحتمل أن يتكلم كل على حدة، نحن ليس لدينا كفاءات متفرغة تدير شؤون الأمة، فالمناسب يتكلم باسم القاعدة للدعوة إلى مجلس، وفتح الأبواب ووضع خطوط عريضة للمستوى الذي نريده، وليس مجرد تسجيل حضور، لا يتناسب مع الاحداث والقاعدة".
وفي مدونة مؤرخة بتاريخ 15 جمادى الأولى 1432هـ، قال بن لادن: "أهم ما يهمنا فيها مجلس الشورى ومراسلة الأخوة لاستنهاض الهمم في ذلك، النفيسي والأحمري وحامد العلي"، ووفق ما ظهر في باقي التدوينة، فالأمر جاء بالتزامن مع ما عرف بمناصرة الموقوفين أمنيًا في السعودية: "فكوا العاني"، وحملة "إلا الحرائر"، الذين وصفهم بن لادن بـ"شباب الثورة في الحجاز"، قائلاً: "هذه فرصة لكل أهل السجناء يتظاهرون ويفتحون باب الثورة".
لكن ماذا قصد بن لادن، بكلمات الأحمد والمالكي ولماذا هي بالتحديد؟
في 2012 أصدر عبد الله المالكي كتابه عن دار نشر "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، بعنوان "سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة"، وفيه تناول المالكي وجوب التحاكم إلى الشريعة والالتزام بمرجعيتها، باعتباره أصلاً من أصول الدين، ومُحكمة من مُحكمات الشريعة بل مقتضى الشهادة الرسالية، وفي المقابل لعب
يوسف الأحمد دورًا بارزًا فيما يسمى بحملة "فكوا العاني"، والدعوة إلى الخروج بمظاهرات، ليتم توقيفه في 2011 ويفرج عنه في 2012، ليتم إيقافه مرة أخرى، بينما النفيسي كانت أغلب لقاءاته للدعاية لما يسمى "الربيع العربي"، والتبيشر بسقوط الحكومات العربية عمومًا والخليجية خصوصًا.
أما محمد الأحمري، الذي وجه بن لادن بضمه إلى المجلس الثوري، فهو أحد تلامذة محمد سرور، مؤسس السرورية، الذي استقطبه للكتابة في مجلة "السنة" في التسعينات، قبل أن ينقلب متجها نحو الجناح الآخر، الإخوان، وهو ما بدا واضحًا في مقاله "خدعة التحليل العقدي"، مظهرًا انفتاحًا بالغًا على جماعة "الممانعة والمقاومة" (حزب الله اللبناني)، ممثلة في حسن نصر الله، والحليف الإيراني، واختتم بالانتقال إلى قطر في إقامة دائمة، والحصول على الجنسية القطرية. وإلى جانب تلك الأسماء، أشار بن لادن إلى الاستعانة بمراكز الدراسات القطرية التي يراها قادرة على حمل شعلة وراية القاعدة، وهذه المراكز يقوم عليها كلٍ من الأحمري، والشنقيطي، وعزمي بشارة.
وهكذا تكشف جملة وثائق بن لادن ورسائله مدى ارتباط القاعدة وتناغمها مع المشروع القطري المتطرف، وهذه الكيانات المكونة للمشروع "الإسلاموي"، ومن هنا يكون قرار التصنيف المتطرف للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيسه القرضاوي، وتوابعه، من منظمات ومراكز دراسات بحثية، وعدد من أعضائه، هو بمثابة تعطيل لـ"القلب الاصطناعي" للمشروع، وإغلاق لمنافذ الحياة عن أطرافه.
أرسل تعليقك